مذهب الاشتقاق في الأسماء الحسنىٰ...
بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ نبينا محمد وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه
فهذا كلام في مذهب الاشتقاق بخصوص الأسماء الحسنىٰ للَّه جل وعلا
فابتداءً لا يختلف أهل السنة في إثباتها من الكتاب والسنة وآثار الصحابة
قال الآجري في الشريعة:
( ٧٣٩ - اعلموا - وفقنا اللّٰه وإياكم للرشاد من القول والعمل أنّ أهل الحقّ يصفون اللّٰه ﷻ بما:
أ - وصف به نفسه ﷻ
ب - وبما وصفه به رسوله ﷺ
ج - وبما وصفه به الصحابة - رضي اللّٰه عنهم - )
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه اللَّه في شرح السفارينية:
” فكل ما قد جاء في الدليل ... فثابت من غير ما تمثيل
هذه قاعدة نافعة في باب الصفات، فكل ما جاء في الدليل فثابت، ولكن الدليل الذي يعتمد عليه في صفات اللَّه عز وجل هو الأثر فقط عند أهل السنة والجماعة
الأثر يتمثل في أمور ثلاثة: الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، فهذه هي مصادر التلقي بالنسبة للصفات ”
أقول: الأسماء الحسنىٰ في هذا كالصفات فتُثبَّت بأثار الصحابة
ومن أمثلة ذلك ما صح عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه كما في مصنف ابن أبي شيبة أنه دعا اللَّه جل جلاله باسم الأعز والأكرم، والدعاء لا يكون إلا بالأسماء الحسنىٰ
فهذا كذلك ومن بعد فقد اختُلِف في إثباتها بالاشتقاق، فإن قيل: وما المقصود بالاشتقاق؟
قيل: الاشتقاق أخذ كلمة من كلمة أخرىٰ، والمراد بالاشتقاق في الباب هو أخذ اسم للَّه تعالىٰ من فعل له سبحانه وتعالىٰ
وبالمثال يتضح المقال، فمثلًا تأتي لقوله جل وعلا: {ويبقىٰ وجه ربك ذو الجلال والإكرام}
وتشتق من الفعل وهو بقىٰ يبقىٰ اسمَ فاعلٍ، فتقول: الباقي
أو تأتي لقوله جل وعلا: {صراط الذين أنعمت عليهم}
فتأخذ من الفعل أنعم وتشتق منه اسمَ فاعلٍ وهو المنعم، وهكذا
فهذا الاشتقاق قد كان عليه السلف
وهو ظاهر في جمع جعفر الصادق، والوليد بن مسلم، وسفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل، وابن مندة، وأبي القاسم التميمي قوام السنة
وهو ظاهر في كلام ابن قتيبة، وابن القيم، وغيرهم
ولهذا كان هناك راوٍ في زمان السلف كما في السنة للخلال اسم أبيه عبد النور، وهو أبو عبد اللَّه بن عبد النور، وهذا من أصحاب أبي بكر المروذي
وهناك راوٍ اسمه: عبد النور بن عبد اللَّه بن سنان، وقد ذكره البخاري في تاريخه
ولا نجد إنكارًا لشيء من هذا هذا مع أن التعبيد صريح، ولا أعلم في السلف أحد ينكر مذهب الاشتقاق، واللَّه العالم
وللاشتقاق شروط بها تتبد الشبهات عنه، وهي:
( ١ ) - أن يكون الاشتقاق من النص، وبهذا يعلم أن الاشتقاق ليس من جنس قول المعتزلة بإثبات أسماء من العقل قياساً
وليس من إدخال أسماء هي ليست له جل جلاله، ولا ينافي القول بتوقيفية الأسماء: لأن الاشتقاق من النص أصلًا ومتوقف عليه
قال ابن أبي حاتم في تفسيره:
( ٨٥٨٧ - حدثنا أبو عامر سعيد بن عمرو بن سعيد الحمصي السكوني، ثنا إبراهيم ابن العلا الزبيدي، ثنا أبو عبد الملك عبد الواحد بن ميسرة القرشي الزيتوني حدثني مبشر بن عبيد القرشي قال:
قال الأعمش: يلحدون بنصب الياء والحاء من اللحد، قال: وسألته عن تفسيرها فقال: يدخلون فيها ما ليس منها )
أقول: فليس أمر كعدم إدخال أسماء هي ليست له جل جلاله مما قد يخفىٰ خصوصًا علىٰ جموع من أئمة السلف القائلين بالاشتقاق، ومع ذلك قالوا بالاشتقاق فعُلِمَ أن الاشتقاق لا ينافي ذلك
قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن:
( والضرب: التبيين والوصف، قال اللَّه تعالىٖ: {ضرب اللَّه مثلا} وقال: {فلا تضربوا للَّه الأمثال}، أي لا تصفوه بصفات غيره ولا تشبهوه )
وهذا الكلام ينطبق علىٰ باب الأسماء الحسنىٰ فلا نسميه بأسماء غيره
ومع ذلك فابن قتيبة يثبت الاشتقاق كما سيأتي فهو لا يراه معارضًا لذلك
( ٢ ) - أن يكون الاسم المشتق كمالًا من كل وجه فلا يكون مسماه منقسماً لممدوح ومذموم
فإن كان في الفعل الذي اشتق منه الاسم وجه نقص فيحدث باشتقاق الاسم منه أن يكون الاسم محتملًا لنقص بوجه من الوجوه:
كالماكر من مكر، والمخادع ما خادع، وغيره، فلا يشتق منه اسم
قال ابن القيم:
( وقد أخطَأَ أقبَحَ خَطَأٍ مَن اشتَقَّ له من كُلِّ فِعلٍ اسمًا، وبَلَغ بأسمائِه زيادةً على الألْفِ، فسَمَّاه الماكِرَ، والمخادِعَ، والفاتِنَ، والكائِدَ، ونحوَ ذلك
وما كان مسمَّاه مُنقَسِمًا لم يَدخُلْ اسمُه في الأسماءِ الحُسْنىٰ، كالشَّيءِ، والمَعْلُومِ: ولذلك لم يُسَمَّ بالمُريدِ، ولا بالمتكَلِّمِ، وإن كان له الإرادةُ والكلامُ: لانقِسامِ مُسَمَّىٰ المريدِ والمتكَلِّمِ )
وأسماءه تعالىٰ حسنىٰ، ونسق ثبوتها مؤتلف فهي مُثبَتةٌ علىٰ كمال من كل وجه وبكل حال إذ كانت في غاية الحسن
فكذلك ينبغي أن يكون الاسم المشتق متمحضًا في الحسن فيكون كمالًا من كل وجه وبكل حال
وقد يكون الاسم المشتق كمالًا من كل وجه وبكل حال بالمقابلة فيُثبَت كذلك لا بالإفراد كما في اسم الضار مقرونًا بالنافع وكذلك في اسم المنتقم مقرونًا بالعفو
وقد أثبتهما الوليد بن مسلم في جمعه بالمقابلة علىٰ أن اسم الضار لا أعلمه مأخوذًا من فعل صريح فلم يرد فيما أعلم: ضر اللَّه أو اللَّه يضر وما شابه، فلعل في تثبيته نظرًا
وبالشرط المذكور ندرء ششبهة إثبات أسماء هي كالماكر والمخادع وما شابهها إن قلنا بالاشتقاق
هذا وبعض الأسماء قد يُختَلف فيها
فمثلًا قد أثبت أبو القاسم التميمي قوام السنة اسم الصانع بالاشتقاق من قوله تعالىٰ: {صنع اللَّه الذي أتقن كل شيء}، وتبعه ابن مندة علىٰ ذاك
بينما أنكر أنكر ابن القيم تسميته سبحانه بذلك بالإفراد لأنه رأىٰ انقسام مسمىٰ الاسم إلىٰ صانع ممدوح حسن الصنعة ومذموم سيئ الصنعة
( ٣ ) - أن يكون الاسم المشتق قد قال به أحد من الأئمة
قال ابن قتيبة في غريب القرآن متحدثاً عن اسم المؤمن:
( وقد يكون المؤمن من الأمان: أي: لا يأمن إلا من أمنه اللَّه
وهذه الصفة - من صفات اللَّه جل وعز - لا تتصرف تصرف غيرها؛ لا يقال: أَمِنَ اللَّه: كما يقال: تقدس اللَّه، ولا يقال: يؤمن اللَّه كما يقال: يتقدس اللَّه
وكذلك يقال: (تعالىٰ اللَّه)، وهو تفاعل من (العلو)، و: (تبارك اللَّه)، هو تفاعل من: (البركة)، و: (اللَّه متعال) ولا يقال: متبارك لم نسمعه
وإنما ننتهي في صفاته إلىٰ حيث انتهى فإن كان قد جاء من هذا شيء - عن الرسول صلىٰ اللَّه عليه وعلىٰ آله، أو عن الأئمة -: جاز أن يطلق، كما أطلق غيره )
فعلق الإمام ابن قتيبة جواز القول بالاسم المشتق بالأئمة، فإن تمت شروط الاشتقاق المذكورة من قبل واشتُق اسم ولكن لم يقل به أحد من الأئمة فلا يقال به ولا يعبد به
وإنما يشتق الأئمة لا نحن
وقول ابن قتيبة: (لا يقال: أمِن اللَّه)، يعني لأنه تعالىٰ لا يخاف حتىٰ يأمن ويطمأن
والقول بأن في مذهب الاشتقاق نسبة أسماء هي ليست له جل جلاله من أبطل الباطل
وكذا من ظن أن مذهب الاشتقاق منافٍ لكون الباب توقيفيًّا فقط غلط
وعليه أيضاً فلا مانع من التعبيد بالأسماء الثابتة بالاشتقاق علىٰ وفق شروطه، ولا يُنكَر علىٰ من فعل ذلك
وقد فعله أحدهم في زمن السلف ولم يُنكَر عليه كما سبق وذكرنا عن الراوي ابن عبد النور
وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد
تعليقات
إرسال تعليق