قاعدة فيما يضاف إلىٰ اللَّه سبحانه...

بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:

قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه علىٰ المَريسي [٥١]:

” أرأيتُم قولَكُم: إنَّ أسماءَ اللَّهِ مخلُوقَة فمن خَلَقها؟، أو كيف خَلَقها؟

أجَعَلها أجسَامًا وصُورًا تشغَلُ أعيانُهَا أمكِنَةً دون أَمكِنَةَ دونَهُ من الأَرضِ والسمَاء؟، أم مَوضِعّا دونَهُ في الهَواء؟

فإن قلتم: لها أجسَامٌ دونَهُ فهذا ما تنفِيه عُقُول العقلاء

وإن قلتم: خَلَقها علىٰ ألسِنَة العِبَاد فدَعَوه بها، وأعَارُوها إياه

فهو ما ادعينا عليكُم: إنَّ اللٌَه بزعمكُم كانَ مَجهولًا لا اسمَ له حتىٰ حَدَث الخلق فأحدثُوا أسماءً من مَخلُوق كلامِهِم 

وَهَذَا هُوَ الإلحادُ بِاللَّهِ وَفِي أَسْمَائِهِ، وَالتَّكْذِيبُ بِهَا.

قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، كَمَا نُضِيفُهُ إِلَىٰ اللَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَلَوْ كَانَ كَمَا ادَّعَيْتُمْ لَقِيلَ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ المُسَمَّىٰ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ “

أقول: هذا الكلام فيه بيان لمخالفة المعطلة العظيمة في باب الأسماء الحسنىٰ بخلاف من يقول: إن الأشاعرة والمعتزلة يثبتون الأسماء - بإطلاق -

بل القوم يدعون أنها مخلوقة وإذا كانت كذلك فالذي تكلم بها ابتداءً المخلوق، وهذا يعني أنها ليست أسماءه سبحانه من كلامه بل هي أسماء مخلوقة مستعارة من المخلوقات

وحقيقة هذه المقالة أنه سبحانه لا اسم له حتىٰ حدث الخلق الذين تكلموا بأسماءه فهو كان مجهولًا وفق هذه الدعوىٰ والعياذ باللَّه

وحقيقة هذه المقالة أن أسماءه مستعارة وليست بالأصل من كلامه، وفي هذا نسبة العجز للَّه تعالىٰ إذ لا سبيل لأن يكون له اسم إلا بخلقه وإلا بالمخلوق الذي يعيره الاسم الذي تكلم به!

قال الدارمي في نقضه [٤٧]:

” ثُمَّ اعْتَرَضَ المُعَارِضُ أَسْمَاءَ اللهِ المُقَدَّسَةَ فَذَهَبَ فِي تَأْوِيلِهَا مَذْهَبَ إِمَامِهِ المَرِيسِيِّ.

فَادَّعَى أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ، وَأَنَّهَا مُسْتَعَارةٌ مخلوقةٌ كَمَا أَنه قَدْ يَكُونُ شَخْصٌ بِلَا اسْمٍ، فَتَسْمِيَتُهُ لَا تَزِيدُ فِي الشَّخْصِ، وَلَا تَنْقُصُ.

يَعْنِي أَنَّ اللَّه كَانَ مَجْهُولًا كَشَخْصٍ مَجْهُولٍ، لَا يَهْتَدِي لِاسْمِهِ، وَلَا يَدْرِى مَا هُوَ، حَتَّى خَلَقَ الخَلْقَ فَابْتَدَعُوا لَهُ أَسْمَاءً مِنْ مَخْلُوقِ كَلَامِهِمْ، فَأَعَارُوهَا إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْرَفَ لَهُ اسْمٌ قَبْلَ الخَلْقِ.

وَمَنِ ادَّعَىٰ هَذَا التَّأْوِيلَ: فَقَدْ نَسَبَ اللَّهَ تَعَالَى إِلَىٰ العَجْزِ، وَالوَهَنِ وَالضَّرُورَةِ، وَالحَاجَةِ إِلَىٰ الخَلْقِ؛ لِأَنَّ المُسْتَعِيرَ مُحْتَاجٌ مُضْطَرٌّ، وَالمُعِيرُ أَبَدًا أَعْلَىٰ مِنْهُ وَأَغْنَىٰ.

فَفِي هَذِهِ الدَّعْوَىٰ اسْتِجْهَالُ الخَالِقِ؛ إِذْ كَانَ بِزَعْمِهِ هَملًا لَا يُدْرَىٰ مَا اسْمُهُ وَمَا هُوَ وَمَا صِفَتُهُ وَالله المُتَعَالِي عَنْ هَذَا الوَصْف المُنَزَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ هِيَ تَحْقِيقُ صِفَاتِهِ “

أقول: هذا مع عدم إثباتهم لمعاني الأسماء إمَّا بالكلية وإمَّا بالغالب، فالقوم يخالفوننا من حيث معاني الأسماء ومن حيث إضافتها غير مخلوقة لمسماها سبحانه

فمن لم يحقق من أسماءه صفات لم يحقق صفاته ولم يثبتها إذ هي كما قال الدرامي رحمه اللَّه: ”أسماء اللَّه هي تحقيق صفاته“

قال الدرامي في نقضه [٥١]: ” فهذا الذي ادعوا في أسماء اللَّه أصلٌ كبير من أصول الجهمية التي بنوا عليها محنتهم وأسسوا بها ضلالتهم “

وقد كفر أحمد والشافعي من يقول بخلق الأسماء، وليست هذه المخالقة من المخالفة المشتبهة أو الخفية بل من المخالفات الظاهرة البينة حتىٰ قال الدارمي أن مذهبهم في الأسماء الحسنىٰ أصل كبير من أصول المعطلة

وقال رحمه اللَّه [٥٨]:

” مَا مُدَّعِي هَذَا بِمُؤْمِنٍ، وَلَنْ يَدْخُلَ الإِيمَانُ قَلْبَ رَجُلٍ حَتَّىٰ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ إِلَهًا وَاحِدًا، بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ، وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ، لَمْ يَحْدُثْ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ، كَمَا لَمْ تَزَلْ وَحْدَانِيَّتُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ “

وقال الخلال في السنة:

” ١٨٥٦ - وأخبرنا سليمان بن الأشعث، قال: سمعت أبا عبد اللَّه ذكر له أنّ رجلًا قال: إنّ أسماء اللَّه مخلوقة

فقال: كفر بين “

هذا إسناد صحيح، وسليمان هو أبو داود السجستاني الإمام المعروف

وقد تابع الخلال ابن مخلد العطار عند الآجري فقال رحمه اللَّه في الشريعة:

” ٢٠٩- أخبرنا ابن مخلد، قال: ثنا أبو داود، قال: سمعت أحمد بن حنبل وذكر له رجلٌ أنَّ رجلًا قال: إنّ أسماء اللَّه مخلوقة، والقرآن مخلوق

فقال أحمد: كفر بين “

وعلىٰ أي حال فمدلول كلام الدارمي جليل، والقاعدة المستفادة من كلامه الأول نافعة في باب الإضافات للَّه جل وعز

وقد شرح ابن تيمية هذه القاعدة بطريقة ميسرة طيبة فقال في مجموع الفتاوىٰ [٢٨٢ - ١٧]:

” مَا أُضيفَ إلىٰ اللَّهِ، أو قِيلَ: هو منه؛ فعلىٰ وَجهَينِ: إنْ كان عَينًا قائِمةً بنَفْسِها فهو مملوكٌ له، ومِن: لابتداءِ الغايةِ، كما قال تعالىٰ: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا}

وقال في المسيحِ: {وَرُوحٌ مِنْهُ}، وما كان صفةً لا يقومُ بنَفْسِه، كالعِلْمِ، والكلامِ؛ فهو صِفةٌ له، كما يُقالُ: كلامُ اللَّه وعِلمُ اللَّهِ “

فلو قيل: ناقة اللَّه جل وعز، فهذه إضافة تشريف وتكريم إذ الناقة شيء منفصل يقوم بنفسه، بخلاف مثلًا العلم الذي هو صفة لا بد لها من موصوف تقوم فيه، فإضافة العلم إليه سبحانه إضافة صفة لموصوف

وعليه فإضافة الروح إليه سبحانه في قوله: {ونفخت فيه من روحي}, إضافة ملك وتشريف وتكريم لا إضافة صفة

قال أبو العباس ابن تيمية في مجموع الفتاوىٰ [٢٩٠ - ٧]:

” إضافةُ الرُّوحِ إلىٰ اللَّهِ إضافةُ مِلكٍ لا إضافةُ وَصفٍ: إذ كُلُّ ما يُضافُ إلىٰ اللَّهِ إن كان عينًا قائِمةً بنَفْسِها، فهو مِلكٌ له، وإن كان صِفةً قائِمةً بغَيرِها ليس لها محَلٌّ تقومُ به، فهو صِفةٌ للَّهِ “

وقال ابن قتيبة في الإختلاف في اللفظ [٦٥ - ٦٦]:

وقد بلغني أن قومًا يذهبون إلىٰ أن روح الإنسان غير مخلوقة، وأنهم يستدلون علىٰ ذلك بقول اللَّه في آدم: {ونفخت فيه من روحي}

وهذا هو النصرانية والقول باللاهوت والناسوت، قال النابغة الجعدي:

من نطفة قدرها مقدرها ... يخلق منها الإنسان والنسما

والنسم: الأرواح

وأجمع الناس علىٰ أن اللَّه خالق الجن وبارئ النسمة أي خالق الروح “

أقول: قد غلط بعضهم فعد ابن قتيبة ممن يثبت الروح صفةً للَّه جل وعز، والواقع أنه صرح بخلاف ذلك كما يظهر في كلامه

وانما مراده بكلامه في باب الرد علىٰ متأول الروح أنه إذا قيل: نفخت، فلا تحتمل كلمة الروح إلا معنىً واحدًا أي أن المراد من الروح روح الأجسام

فالرحمة لا يُنفخ فيها، وكذا الملك العظيم، وكذا كلامه سبحانه لا ينفخ فيه، وليس المراد بالروح النفخ فيصير المعنىٰ ونفخت فيه من نفخي

ولكن المعنىٰ المعقول هو: روح الأجسام، فالنفخ فعله سبحانه نؤمن به ولا نكيفه والروح روح آدم ﷺ وهي مخلوقة لا شك

فهذا وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخلاف في صفة الهرولة...

دلالة الحس علىٰ الخالق وصفاته وأفعاله...

هل تثبت صفة البشبشة؟