دلالة الحس علىٰ الخالق وصفاته وأفعاله...

بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:

فيُلاحَظ من أهل الإلحاد ملاحظة ويُعلَم منهم جهالة ومغالطة إذ يحصرون دلالة الحس علىٰ الشيء بإدراكه بالجواس وتجربته بها فقط

وهذا لا يقره عموم بني آدم، فدلالة الحس تعم إدارك الشيء وتجربته ليُعرَف وجوده وحضوره

وكذا تعم إدارك أثار الشيء وتجربتها ليُعرَف وجوده وحضوره

وأضرب لذلك مثلًا: إذا آنستَ أثارَ قدمِ إنسان فإنك تستدل بما أدركته حاستك علىٰ وجود بشري أوجد هذه لأثار وإن لم تدركه بإحدىٰ الحواس الخمس هو نفسَه 

وإنما استدللت عليه من إدراك أثاره بالحواس، ومثل هذا حتىٰ الملحد يقر به ولا حيلة فيه 

وفي الكون أثار عديدة دالة علىٰ الصانع الخالق جل وعلا وصفاته

فإدراك التناسق والانتظام في الكون في دقائق الأمور وجليلها كيف هي مع بعضها البعض تكون وتُكوِّن إدراكٌ لأثار دالة علىٰ فعل خالق عليم بالظاهر خبير بالباطن حكيم يضع الشيء في موضعه فلا يظلمه قدير لا يعجزه شيء ذو إرادة وقصد بمشيئته يفعل ما أراد

وكذا إدراك بداعة الجمال في الأمور بتناسب ما فيها مع بعضها البعض علىٰ قدر موزون رائق بالحواس دال علىٰ حب محب جميل للجمال

وقد قال رسولُ اللَّهِ ﷺ: (إن اللَّه جميل يحب الجمال)، والأثار الحسية لحبه للجمال تبارك وتعالىٰ بينة لا تخفىٰ، فهذه أدلة تبعية تعضد نص رسول اللَّه ﷺ وتُثبِتُه 

وكذا إدراك االرياح السائرة المُصرَّفة يمينًا تارةً وشمالًا تارةً وإلىٰ الأمام تارةً وللخلف تارةً حتىٰ تُسيَّر السفن والحاجات والمنافع للناس كلٌّ بقدره

هذا دال دلالة بينة علىٰ رفق رفيق ولطف لطيف قسم الأرزاق والعطايا فرزق من شاء وهو القوي علىٰ ذلك العزيز سبحانه

قال تعالىٰ: ( اللَّهُ لَطيفٌ بِعِبادِهِ يَرزُقُ مَن يَشاءُ وَهُوَ القَوِيُّ العَزيزُ )

وقال: ( وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهارِ )، إلىٰ قوله: ( وَتَصريفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَومٍ يَعقِلونَ )

وقال: ( رَبُّكُمُ الَّذي يُزجي لَكُمُ الفُلكَ فِي البَحرِ لِتَبتَغوا مِن فَضلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُم رَحيمًا )

يعني يسيرها في البحر بالرياح المُصرَّفة سبحانه وتعالىٰ فهو الإله المستحق للعبادة بكونه الرحيم الذي يرحم فينجي وينفع ويدفع الضر ويرفع 

والاستدلال بدلالة الحس علىٰ الخالق وصفاته لتثبيت البعث والحساب بذلك في القرآن الكريم أمر حاضر وبين 

قال جل وعلا: ( وَفِي الأَرضِ آياتٌ لِلموقِنينَ )

وقال: { اللَّهُ الَّذي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيرِ عَمَدٍ تَرَونَها ثُمَّ استَوى عَلَى العَرشِ وَسَخَّرَ الشَّمسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجري لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُم بِلِقاءِ رَبِّكُم توقِنونَ * وَهوَ الَّذي مَدَّ الأَرضَ وَجَعَلَ فيها رَواسِيَ وَأَنهارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فيها زَوجَينِ اثنَينِ يُغشِي اللَّيلَ النَّهارَ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَومٍ يَتَفَكَّرونَ * وَفِي الأَرضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنّاتٌ مِن أَعنابٍ وَزَرعٌ وَنَخيلٌ صِنوانٌ وَغَيرُ صِنوانٍ يُسقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعضَها عَلى بَعضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَومٍ يَعقِلونَ }

والآيات المُفصَّلة هي الآيات الحسية إذ ذُكِرَت في لواحق الكلام وكذا في سوابقه فقيل بعدها: (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)، و: (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون)

والمراد بقوله تعالىٰ: (لقوم يتفكرون)، المؤمنين الذين وصفهم جل جلاله بقوله: (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك)

فإن تفكر متفكر بالآيات الحسية أفسيرىٰ أن الذي رفع السماء بلا عمود يمسكها وذلل الشمس والقمر فجعلهما يجريان لمصالح الناس ليعلموا بهما حسبة الأيام والسنين ويفصلوا بين الليل والنهار والذي بسط الأرض ومدها فهيأها لاتخاذ الطرق ولمعاش خلقه وجعل فيها من كل الثمرات صنفين اثنين والذي ألبس وغطىٰ النهار بالليل وألبس وغطىٰ الليل بالنهار

أفسيرىٰ الذي فعل كل ذاك بقدرته علىٰ حكمةٍ منه وخبرة ولرحمةً منه بالناس ورأفة تمنُّنًا منه وتفضُّلًا عليهم يخلقنا عبثًا ولا يعيدنا إليه فيقيم الحق ويعلي نفسه وحقه!؟

وكل تلك الآيات الكونية الحسية التي ذكرها سبحانه أثارٌ دالة عليه وعلىٰ صفاته من كونه حكيمًا عليمًا قديرًا قويًّا لطيفًا بعباده رفيقًا بهم ورحيمًا إلخ 

وقد بين الأثار عليه وعلىٰ صفاته تعالىٰ لعلنا بلقاءه والعود إليه نوقن، فسبحان الذي يبدئ الخلق ثم يعيده

ويظهر لكل عاقل أن أثار الكون العظيمة من أقوىٰ الأدلة الحسية علىٰ وجود خالق متصف بصفات الكمال فمال القوم لا يؤمنون!

فياللعجب، والكفر فيما هو ظاهر وبين إنما يأتي بسبب من الشهوات أو الكِبْر لا بسبب من الشبهات التي قد يظهرها المرء إخفاءً لما في نفسه من شهوة أو كبر، فهذا الغالب، واللَّه المستعان

والاستدلال بالحس عليه وعلىٰ صفاته مما لم يغفل عنه السلف الكرام

قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن [١٠٩]:

” وفَكِّر في قوله تعالىٰ حين ذكر جنات الأرض: {يُسقَى بماء واحد، ونُفَضِّل بعضها علىٰ بعض في الأكل}

كيف دل علىٰ نفسه ولطفه ووحدانيته، وهدى للحجة من ضل عنه، لأنّه لو كان ظهور التمرة بالماء والتربة، لوجب في القياس ألا تختلف الطعوم، وألا يقع التفاضل في الجنس الواحد، إذا نبت في مغرِسٍ واحد، وسُقي بماء واحد، ولكنه صنع اللطيف الخبير ”

وقال مقاتل بن سليمان في كتاب التفسير له:

” ثُمّ دل عَلَىٰ نفسه بصنعه ليوحدوه وذكرهم النعم، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (اعبدوا ربكم الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا)، يعني بساطًا

(وَالسَّماءَ بِناءً)، يعني سقفًا، (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً)، يعني المطر، (فَأَخْرَجَ بِهِ)، يَقُولُ: فأخرج بالمطر من الأرض أنواعًا مِنَ: (الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدادًا)، يَقُولُ لا تجعلوا مَعَ اللَّه شركاء: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، أن هَذَا الَّذِي ذكر كله من صنعه فكيف تعبدون غيره ”

فهو سبحانه دل علىٰ صنع الصانع بمصنوعاته أي بأثار فعله وصنعه

فأخبر عن الأرض المصنوعة بساطًا مُهَيئًا لاتخاذ الطرق والمشي، والسماء المصنوعة سقفًا للأرض مرفوعًا بغير عمد

وذكر المطر المصنوع من السحاب حتىٰ ينزل إلىٰ الأرض فيُخرَج به في مواضع مفترقة مختلف الثمرات، فذلك وغيره: (صنع اللَّه الذي أتقن كل شيء صنعه إنه خبير بما تعملون)

وقال أبو جعفر الطبري:

” وقوله: (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) ، يقول تعالىٰ ذكره: إن فيما وصفت وذكرت من عجائب خلق اللَّه وعظيم قدرته التي خلق بها هذه الأشياء لَدلالات وحججًا وعظات لقوم يتفكرون فيها

فيستدلون ويعتبرون بها، فيعلمون أن العبادة لا تصلح ولا تجوز إلا لمن خلقها ودبَّرها دون غيره من الآلهة والأصنام التي لا تقدر على ضر ولا نفع ولا لشيء غيرها، إلا لمن أنشأ ذلك فأحدثه من غير شيء تبارك وتعالىٰ

وأن القدرة التي أبدع بها ذلك، هي القدرة التي لا يتعذَّر عليه إحياء من هلك من خلقه، وإعادة ما فني منه وابتداع ما شاء ابتداعَه بها ”

ثم قال: 

” وقوله: (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) يقول تعالىٰ ذكره: إن في مخالفة اللَّه عز وجل بين هذا القطع من الأرض المتجاورات وثمار جناتها وزروعها على ما وصفنا وبينَّا لدليلًا واضحًا وعبرة لقوم يعقلون اختلاف ذلك أن الذي خالف بينه علىٰ هذا النحو الذي خالف بينه هو المخالف بين خلقه فيما قسم لهم من هداية وضلال وتوفيق وخذلان، فوفّق هذا وخذل هذا، وهدى ذا وأضل ذا

ولو شاء لسوَّىٰ بين جميعهم، كما لو شاء سوَّى بين جميع أكل ثمار الجنة التي تشرب شربًا واحدًا، وتسقى سقيًا واحدًا، وهي متفاضلة في الأكل ”

ثم قال: 

” {وَإِن تَعجَب فَعَجَبٌ قَولُهُم أَإِذا كُنّا تُرابًا أَإِنّا لَفي خَلقٍ جَديدٍ} 

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: {وَإنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ}، إن عجبت يا محمد فعجب: {قَوْلُهُمْ أئِذَا كُنَّا تُرَابًا أئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، عجب الرحمن تبارك وتعالىٰ من تكذيبهم بالبعث بعد الموت ”

هذا إسناد صحيح 

ويا إلهي أفلا نعجب نحن وقد عجب بديع السماوات والأرض من كفر الكفار بعدما فصل من الآيات ما فصل؟ 

هذا وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخلاف في صفة الهرولة...

هل تثبت صفة البشبشة؟