الخلاف في صفة الهرولة...

بسم اللَّه وبه أستعين ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العزيز الحكيم والصلاة والسلام علىٰ رسوله الأمين، وبعد:

فثمة فرق بين الخلاف الأصولي العقدي وبين الخلاف الفروعي الاجتهادي

فإن المسائل العلميات والعمليات منها ما ظاهر الأدلة ومنها ما هو خفي، ومنها ما هو بين الدلالة ومنها ما هو مشتبه وغامض

فالخلاف الفرعي الاجتهادي إنما هو فيما خفي دليله أو غَمُض ودق

ومن ذلك صفة الهرولة فقد اختُلِف فيها إذ كان دليها غامض بدرجة وقدر فاختلف في وجهه الأظهر أهو دال علىٰ الصفة أم لا؟

فهذا كذلك مع اعتقاد الكل جواز اتصافه تعالىٰ بالهرولة إن ثبتت

وقد يخالف رجل في صفة الهرولة لبدعة أي لاعتقاد تنزه اللَّه تعالىٰ عن الفعل

وقد يخالف امرؤ في صفة الهرولة لتأويل يراه هو الأظهر وإن كان مع ذلك مجوِّزًا اتصافه تعالىٰ بالفعل الاختياري 

فالأول نوع الخلاف معه أصولي غير اجتهادي إذ كان معتقدًا باستحالة قيام الفعل للَّه تعالىٰ 

وأما الثاني فنوع الخلاف معه فروعي اجتهادي إذ هو مجيز للفعل في حقه سبحانه فلو ثبت عنده دلالة الدليل عليها لأثبت وأذعن

وإنما هو ينازع في دلالة الخطاب علىٰ الصفة إذ يرىٰ مخرجه الأظهر غير دال عليها، فلهذا يخالف

والخلاف الثاني هو الذي حصل بين أهل السنة في صفة الهرولة

ففي الحديث القدسي أو الإلهي: ( أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً )

بعضهم عد الحديث من نصوص الصفات كابن بطة في الإبانة الكبرىٰ وكأبي إسماعيل الهروي في الأربعين في دلائل التوحيد، وكأبي موسىٰ المديني في غريب القرآن والحديث

وقد ذكر ابن بطة حديث الهرولة وغيره من أحاديث الصفات ثم قال كما في الإبانة الصغرىٰ:

(فكل هذه الأحاديث وما شاكلها تمر كما جاءت، ولا تعارض، ولا تضرب لها الأمثال، فقد رواها العلماء، وتلقاها الأكابر منهم بالقبول، وتركوا المسألة عن تفسيرها)

وهذا يدل علىٰ أن العلماء في زمن ابن بطة أثبتوا صفة الهرولة وأجروا الحديث مجرىٰ أحاديث الصفات

وبعضهم لم يعتبر الحديث من نصوص الصفات كمعمر ين راشد وقتادة وابن قتيبة وإسحاق وغيرهم من السلف، وسأبين فصل القول في الخلاف بإذن اللَّه

قال عثمان الدارمي في نقضه علىٰ المريسي [٢٩١]:

” ثُمَّ فَسَّرْتَ قَوْلَ عَبْدِ اللَّه: «أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي القُرْبِ مِنْهُ عَلَىٰ قَدْرِ تَسَارُعِهِمْ إِلَىٰ الجُمُعَةِ»، أَنَّ ذَلِكَ تَقَرُّبٌ إِلَيْهِ بِالعَمَلِ الصَّالَحِ كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَىٰ: «مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا»

وَيْلَكَ أَيُّهَا الحَيْرَانُ!، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: «مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا»، فِي الدُّنْيَا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، لَا فِي الآخِرَةِ يَوْمَ تُرْفَعُ الأَعْمَالُ منِ العِبَادِ ”

فقد بان أن قرب العبد فيما ذكر قرب بالطاعة فيتقابل الكلام ويتفق بكون قربه سبحانه قرب بالإثابة والرحمة 

فيكون مشي العبد إلىٰ اللَّه والأمر كذلك كناية عن إسراعه بالطاعة لا مشي بالقدم فيتقابل الكلام ويتفق علىٰ هذا بكون هرولته سبحانه كناية عن إسراعه بالثواب والرحمة إلىٰ عبده بأسرع وأسبق منه

فالعبد مسرع للَّه بالطاعة، واللَّه مسرع له بالثواب

وإن قيل: بل العبد ماشٍ إلىٰ اللَّه بالمشي للصلاة والجهاد وما أشبه ذلك، واللَّه مهرول إليه

فهذا وإن كان محتملًا ظاهر الكلام علىٰ بعد وقلة من المفهوم، ولا يتقابل به الكلام تقابلًا كالذي في التأويل الأول

ومثال الأمر في قولك: أسعىٰ في رضاه، فالمراد أنك مسرع في طلب رضاه لا أنك تمشي سريعًا لما يحب طلبًا لذلك، فهذا وإن كان هذا وجهًا محتملًا فيه بعد 

وقال سبحانه وتعالىٰ: {والذين سعوا في آياتنا معاجزين}

وليس المراد أنهم يمشون مسرعين في آيات اللَّه ليصدوا الناس عنها دومًا

ولكن المراد واللَّه أعلم: والذين أقبلوا وسارعوا في آياتنا معاجزين معجِّزين، فكنىٰ سبحانه عن الإقبال والإسراع بالسعي

وكذلك كنىٰ سبحانه في الحديث بالمشي والهرولة عن ذلك

فمن تأول الحديث علىٰ نحو ذلك التأويل من أهل الحديث فالنص عندهم بمخرجه الأظهر غير دال علىٰ الصفة  

ويظهر رجحانه باتفاق الكلام به وتقابله بأكثر من التأويل الأخر، وبكونه المخرج الأغلب المعروف في الكلام

وإنما يُوجَّه القول إلىٰ المخرج الذي يحتمله سياقه، فإن احتمل مخارج عدة فحق القول أن يُوجَّه إلىٰ الأغلب المعروف في استعمال الناس وكلامهم من مخارجه

والتأويل الأخر الذي اختاره بعض أهل السنة وإن كان محتملًا ظاهر الكلام بسياقه إلا أنه مرجوح لما ذكرت

هذا ولأن السلف أعلم وأحكم، وكانوا علىٰ ذلك التأويل فكان هو المُختَار

قال الترمذي في جامعه بعد أن روىٰ الحديث [٥٥٣]:

” هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَيُرْوَىٰ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ: مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، يَعْنِي: بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَهَكَذَا فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ، قَالُوا: إِنَّمَا مَعْنَاهُ يَقُولُ: إِذَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ الْعَبْدُ بِطَاعَتِي وَبِمَا أَمَرْتُ أُسَارِعُ إِلَيْهِ مَغْفِرَتِي وَرَحْمَتِي “

وقال معمر بن راشد في جامعه [٢٩٢]:

” ٢٠٥٧٥ -  عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ اذْكُرْنِي فِي نَفْسِكَ أَذْكُرْكَ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرْتَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُكَ فِي مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ - أَوْ قَالَ: فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ - وَإِنْ دَنَوْتَ مِنِّي شِبْرًا دَنَوْتُ مِنْكَ ذِرَاعًا، وَإِنْ دَنَوْتَ ذِرَاعًا دَنَوْتُ بَاعًا، وَلَوْ أَتَيْتَنِي تَمْشِي أَتَيْتُكَ أُهَرْوِل

قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ قَتَادَةُ: وَاللَّهُ أَسْرَعُ بِالْمَغْفِرَةِ “

أقول: معمر لم يحفظ الأسانيد عن قتادة كما ذكر ابن معين، إلا أنه حفظ كلام قتادة نفسه حتىٰ كأنه كان يُنقش في صدره، فما رواه عن قتادة مباشرة مقبول ولا يُدفَع

وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث [٣٢٧]:

” ٢١- قَالُوا: حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ التَّقَرُّبُ إِلَىٰ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:

قَالُوا: رُوِّيتُمْ عَنْ أَبِي ذَرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: منْ تَقَرَّبَ إليَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي، أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ وَتَشْبِيهٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ: مَنْ أَتَانِي مُسْرِعًا بِالطَّاعَةِ، أَتَيْتُهُ بِالثَّوَابِ أَسْرَعَ مِنْ إِتْيَانِهِ، فَكَنَّىٰ عَنْ ذَلِكَ بِالْمَشْيِ وَبِالْهَرْوَلَةِ.

كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ مُوضِعٌ فِي الضَّلَالِ -وَالْإِيضَاعُ: سَيْرٌ سَرِيعٌ- لَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ يَسِيرُ ذَلِكَ السَّيْرَ، وَإِنَّمَا يُرَادُ أَنَّهُ يُسْرِعُ إِلَىٰ الضَّلَالِ، فكَنَّى بِالْوَضْعِ عَنِ الْإِسْرَاعِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ}، وَالسَّعْيُ: الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ، وَلَيْسَ يُرَادُ أَنَّهُمْ مَشَوْا دَائِمًا، وَإِنَّمَا يُرَادُ: أَنَّهُمْ أَسْرَعُوا بِنِيَّاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَاللَّه أعلم. “

وابن قتيبة سلفي الاعتقاد كما هو معلوم، وقد قال في مختلف الحديث [٣٩٥]:

” فإن قالوا: كيف ذلك النظر والمنظور إليه؟، قلنا: نحن لا ننتهي إلىٰ صفاته جل جلاله إلا إلىٰ حديث أنتهىٰ إليه رسول اللّٰه ﷺ، ولا ندفع ما صح عنه ، لأنَّه لا يقوم في أوهامنا ولا يستقيم علىٰ نظرنا، بل نؤمن بذلك من غير أنّ نقول فيه بكيفية أو حد، أو أنّ نقيس علىٰ ما جاء علىٰ ما لم يأتِ

ونرجو أن يكون في ذلك من القول والعقد سبيل النجاة، والتخلص من الأهواء كلها غدّا إن شاء اللَّه تعالىٰ “

فلاحظ قوله: ”لا يقوم في أوهامنا ولا يستقيم علىٰ نظرنا“، يدلك هذا علىٰ أنه لا يعتمد مخالفة الظاهر عنده لأنه لا يستقيم في نظره وعقله

وقال حرب الكرماني في مسائله:

” سمعت إسحاق يقول في حديث النبي ﷺ: من تقرب إلىٰ اللَّهِ شبرًا تقرب اللَّهُ إليه باعًا

قال: يعني من تقرب إلىٰ اللَّهِ شبرًا بالعمل تقرب اللَّهُ إليه بالثواب باعًا ”

هذا وأنبه علىٰ قول الشيخ ابن عثيمين رحمه اللَّه في شرح العقيدة السفارينية: (والقول بأن العقيدة ليس فيها خلاف علىٰ الإطلاق غير صحيح، فإنه يوجد من مسائل العقيدة ما يعمل فيه الإنسان بالظن)

ثم ضرب علىٰ قوله مثلًا بالخلاف في صفة الهرولة من جهة دلالة الدليل عليها

والصواب من القول أن يقال: ليست صفة الهرولة عقيدةً ولا أصلًا من الأصول وإن كانت من الغيبيات إذ دليلها ليس ظاهرًا كأدلة الأصول بل في الأمر اجتهاد وخلاف سائغ لا يُبنَىٰ عليه حكم 

فصفة الهرولة علىٰ هذا إنما هي من الفروع لا الأصول

وأصل الأمر أن ما لم يكن ظاهرًا فليس بعقيدة وإن كان أمرًا غيبيّا، وإنما الاعتقاد ما كان ظاهرًا سواء أكان من العمليات أم الغيبيات

وهذا يدل عليه ما في عقائد السلف من ذكر أمور كوجوب الصلاة ومشروعية المسح علىٰ الخفين وغير ذلك مما هو أمر عملي ظاهر وليس من الغيب

وقد نص ابن تيمية رحمه اللَّه علىٰ ما ذكرت من ضابط مسائل الاعتقاد كما في مجموع الفتاوىٰ

واللَّه العالم، وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دلالة الحس علىٰ الخالق وصفاته وأفعاله...

هل تثبت صفة البشبشة؟