معاني الهداية في القرآن الكريم...

بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:

قال  ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن [٥٤١ - ٥٤٢]:

” ٢- الهدىٰ

أصل هَدَى أرشَدَ، كقوله: {عسىٰ ربي أن يهديني سواء السبيل}.

وقوله: {واهدنا إلى سواء الصراط}، أي أرشدنا.

ثم يصير الإرشاد بمعانٍ: كقوله: {وأما ثمود فهديناهم}، أي بينا لهم.

وقوله: {أولم يهد لهم كم أهلكنا}، أي أو لم يبين لهم.

وقوله: {أولم يهد للذين يرثون الأرض}، أي ألم يبين لهم.

فالإرشاد في جميع هذه بالبيان.

ومنها إرشاد بالدعاء، كقوله: {ولكل قوم هاد}، أي نبي يدعوهم.

وقوله: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا}، أي يدعون، {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} أي تدعو.

ومنها إرشاد بالإلهام، كقوله: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}، أي هدىٰ صورته من الإناث ثم هدى أي ألهمه إتيان الأنثىٰ، ويقال: طلب المرعىٰ وتوقي المهالك.

وقوله عز وجل: {والذي قدر فهدى}، أي هدى الذكر بالإلهام لإتيان الأنثىٰ

ومنها إرشاد بالإمضاء، كقوله: {وأن اللَّه لا يهدي كيد الخائنين}، أي لا يمضيه ولا ينفذه، ويقال: لا يصلحه.

وبعض هذا قريب من بعض “

أقول: يقال: هدَى يهدي هُدًى وهدايةً وهديًا

وهُدًى علىٰ وزن فُعَل مصدر سماعي نادر لم يأت مصدر بهذا فيما ذُكِرَ إلا في موضعين وهذا أحدهما

والهداية لفظ عامة أي له أنواع وأقسام، فتأتي الهداية بأكثر من نوع ولا تقتصر علىٰ نوع واحد

فأما الهداية بمعنىٰ الإرشاد ففي قوله تعالىٰ: {عسى ربي أن يهديني}

قال يحيىٰ بن سلام في تفسيره:

” {قال عسى ربي أن يهديني}، أن يرشدني “

وهناك الهداية التي هي هداية التوفيق، فمنها قوله تعالىٰ: {فقالوا ربنا آتينا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا}

أي ويسر لنا من أمرنا سدادًا وتوفيقًا لما تحب وترضىٰ

وقال تعالىٰ بعدها: {إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى} 

فآمن الفتية وتبينوا من الأمر، وطلبوا هداية توفيق وإيمان، فزادهم اللَّه تعالىٰ هدىً علىٰ هداهم

ومن هداية التوفيق قوله تعالىٰ: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}

قال ابن أبي حاتم في تفسيره:

” ٥٦ - حدثنا الحسن بن أبي الربيع، أنا عبد الرزاق، أخبرني الثوري، عن بيان

٥٧ - وحدثنا أبي، ثنا أبو نعيم وعيسىٰ بن جعفر قالا: ثنا سفيان، عن بيان، عن الشعبي في قوله: {هُدّى}،قال: من الضلالة “

هذا ثابت عن الشعبي رحمه اللَّه، والهداية المقصودة في هذا الموضع هداية التوفيق كما يتضح من سياق الآية

قال أبو جعفر الطبري:

” فإن قال لنا قائل: أو ما كان كتاب اللَّه نوراً إلّا للمتقين ولا رشاداً إلا للمؤمنين؟، قيل: 

ذلك كما وصفه ربنا عز وجل، ولو كان نوراً لغير المتقين، ورشاداً لغير المؤمنين لم يخصص اللَّه ﷻ للمتقين بأنّه لهم هُدًى

بل كان يعم به جميع المنذرين ولكنه هُدًى للمتقين، وشفاء لما في صدور المؤمنين، ووَقْرٌ في آذان المكذبين، وعمي لأبصار الجاحدين وحجة للَّه بالغة علىٰ الكافرين فالمؤمن به مهتد، والكافر به محجوج “

وهذا في هداية أي إرشاد التوفيق والتسديد، وأما إرشاد البيان والإيضاح فهذا ثابت حتىٰ للكفار ولا شك

قال ابن جريرٍ الطبري في قوله ﷻ: {وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلّ شَيْءٍ}:

” نزل عليك يا محمد هذا القرآن بيانًا لكل ما بالنَّاس إليه الحاجة من معرفة الحلال والحرام والثواب والعقاب ”

وقد صح من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله: {هَذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ}، قال: وهو هذا القرآن جعله اللَّه بياناً للناس عامة، وهُدًىٰ وموعظةً للمتقين خصوصاً

فهداية البيان عامة وهداية التوفيق خاصة

وأما قوله جل وعلا: {اهدنا الصراط المستقيم}، فالمراد به التوفيق أي إرشاد التوفيق والتسديد

ومن هذا قول المرء: افهم عني مسألتي هداك اللَّه، أي وفقك اللَّه لفهمها، وهذا القول هو الأقرب

قال أبو جعفر الطبري في تفسيره:

” ومعنىٰ قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، في هذا الموضع عندنا: وَفِّقْنا للثبات عليه، كما رُوي ذلك عن ابن عباس:

١٧٣ - حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد اللَّه بن عباس، قال: قال جبريل لمحمد صلى اللَّه عليه: قل، يا محمد، اهدنا الصراط المستقيمَ، يقول: ألهمنا الطريق الهادي

وإلهامه إياه ذلك، هو توفيقه له، كالذي قلنا في تأويله، ومعناه نظيرُ معنىٰ قوله: {إياك نستعين}, في أنه مَسألةُ العبد ربَّه التوفيقَ للثبات على العمل بطاعته، وإصابة الحق والصواب فيما أمَره به ونهاه عنه، فيما يَستَقبِلُ من عُمُره، دون ما قد مضى من أعماله، وتقضَّى فيما سَلف من عُمُره

فإن قال قائل: وأنَّىٰ وَجدتَ الهدايةَ في كلام العرب بمعنىٰ التَّوفيق؟

قيل له: ذلك في كلامها أكثرُ وأظهر من أن يُحصى عددُ ما جاء عنهم في ذلك من الشواهد، فمن ذلك قول الشاعر:

لا تَحْرِمَنِّي هَدَاكَ اللَّه مَسْألتِي ... وَلا أكُونَنْ كمن أوْدَى به السَّفَرُ

يعنى به: وفَّقك اللَّه لقضاء حاجتي، ومنه قول الآخر:

ولا تُعْجِلَنِّي هدَاَك المليكُ ... فإنّ لكلِّ مَقامٍ مَقَالا

فمعلوم أنه إنما أراد: وفقك اللَّه لإصابة الحق في أمري.

ومنه قول اللٌَه جل ثناؤه: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، في غير آيه من تنزيله 

وقد عُلم بذلك أنه لم يَعْنِ أنه لا يُبيِّنُ للظالمين الواجبَ عليهم من فرائضه.

وكيف يجوزُ أن يكونَ ذلك معناه، وقد عمَّ بالبيان جميع المكلَّفين من خلقه؟، ولكنه عَنىٰ جلّ وعزّ أنه لا يُوفِّقهم، ولا يشرَحُ للحق والإيمان صدورَهم ”

وأما هداية البيان ففي قوله تعالىٰ: {إن علينا للهدى}، أي للبيان والإيضاح

قال قتادة: علىٰ اللَّه البيان، بيانُ حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته

وقال تعال: {أَوَلَم يَهدِ لَهُم كَم أَهلَكنا مِن قَبلِهِم مِنَ القُرونِ يَمشونَ في مَساكِنِهِم إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسمَعون}

أي أفلم يبين لهم كما يدل علىٰ هذا المعنىٰ السياق

قال ابن أبي حاتم في تفسيره:

” ٨٧٧٤ - حدثنا حجاج بن حمزة، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: {أولم يهد}، يبين

وروي عن السدي، وعطاء الخراساني مثل ذلك ”

هذا إسناد صحيح وأما قول السدي فقد ذكره يحيىٰ بن سلام فقال في تفسيره:

” قوله عز وجل: {أولم نهد لهم}، أي: أولم نبين لهم، وهو تفسير السدي، وهي تقرأ علىٰ وجه آخر بالياء: {أولم يهد لهم}، أي: أو لم يبين اللَّه لهم. ”

قال أبو جعفر الطبري:

” القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون﴾

يقول تعالىٰ ذكره: أولم يبين لهم؟!

كما حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: ﴿أولم يهد لهم﴾، يقول: أولم يبين لهم. ”

وأما الإرشاد بالدعاء والإنذار ففي قوله تعالىٰ: {ولكل قوم هاد}

وتفسير الآية مقرون بسياقها: {وَيَقولُ الَّذينَ كَفَروا لَولا أُنزِلَ عَلَيهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ إِنَّما أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَومٍ هادٍ}، أي ولكل قوم مرشد بالإنذار والدعاء يعني المنذرين من الأنبياء عليهم السلام 

قال سفيان الثوري في تفسيره:

” عن ليث، عن مجاهد: {أنت منذر}، يا محمد، {ولكل قوم هاد}، قال النبيين عليهم السلام “

وهذا إسناد صحيح فرواية الليث من كتاب القاسم بن أبي بزة

وقال الطبري:

٢٠١٥٣- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (ولكل قوم هاد)، يعني: لكل قوم نبي ”

وهذا إسناد صحيح فرواية ابن أبي نجيح عن مجاهد من كتاب القاسم بن أبي بزة

وقال عبد الرزاق في تفسيره:

” ١٣٥٤ - عن معمر، عن قتادة، في قوله تعالى: {ولكل قوم هاد}، قال: نبي يدعوهم إلىٰ اللَّه ”

هذا إسناد صحيح فمعمر حفظ كلام قتادة والذي لم يحفظه هو الأسانيد لا نفس كلام قتادة 

قال الطبري:

” ٢٠١٣٨- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه)، هذا قول مشركي العرب

قال اللَّه: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد)، لكل قوم داع يدعوهم إلىٰ اللَّه ”

وهذا إسناد صحيح فرواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في التفسير من كتاب كتبه عنه

قال الطبري:

” ٢٠١٥٥- حدثنا محمد بن عبد الأعلىٰ قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ولكل قوم هاد)، قال: نبي يدعوهم إلىٰ اللَّه ”

وهذا إسناد صحيح

وأما قوله تعالىٰ: {ولكن جعلناه نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلىٰ صراط مستقيم}

فمخرجه ظاهر بسياقه أن اللَّه تعالىٰ جعل كتابه نورًا تستنير به القلوب يهدي به بالتنوير والتوفيق من يشاء من عباده

ونبيه ﷺ يهدي بالدعاء لكتابه والبيان عنه إلىٰ صراط مستقيم

وقد أثبت معنىٰ الكلام نظيره فبينه فقوله تعالىٰ: ( وإنك لتدعوهم إلىٰ صراط مستقيم )، هذا نظير قوله: ( وإنك لتهدي إلىٰ صراط مستقيم )

وقال أبو جعفر الطبري:

” قوله: {وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يقول تعالىٰ كره لنبيه محمد ﷺ: وإنك يا محمد لتهدي إلىٰ صراط مستقيم عبادنا، بالدعاء إلىٰ اللَّه، والبيان لهم، كما:
 
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَإنَّكَ لَتَهْدي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}, قال تبارك وتعالىٰ: {وَلِكُلّ قَوْمٍ هادٍ}، داعٍ يدعوهم إلىٰ اللَّه عزّ وجلّ.

 حدثنا ابن عبد الأعلىٰ، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: {وَإنَّكَ لَتَهْدي إلىٰ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}، قال: لكل قوم هاد ”

وهذان إسنادان صحيحان

وبهذا يُعلَم أنه لا تعارض بين ذاك وبين قوله سبحانه: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن اللَّه يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين)

فالهداية المنفية هي هداية التوفيق والتنوير، وأما المثبتة فهي هداية الدعاء والبيان كما بينت من قبل

وأما إرشاد الإلهام ففي قوله تعالىٰ: {الذي أعطىٰ كل شيء خلقه ثم هدى}، وقوله: {والذي قدر فهدى}

وقد فسرت الهداية بالإلهام أي أنه سبحانه أعطىٰ كل شيء مثل خلقه من الإناث ثم هدى أي ألهم الذكر إتيان الأنثىٰ وطلب المصالح وتوقي المهالك

ذكر ذلك ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن، وكذا ذكره الطبري ورواه عن السدي

وقد قيل إن معنىٰ ذلك: الذي أعطىٰ كل شيء خلقه أي صورته وهيئته ثم هداه إلىٰ معيشته وما يصلحه فعلمه ذلك، صح عن مجاهد هذا القول 

وعلىٰ أي حال فالقولان لا يتناقضان إذ لفظ الهداية عام ومحتمل لكلا النوعين ولا موجب لتخصيص أحدهما من دون الأخر 

وإنما ذكر بعضهم نوعًا من الهداية وذكر بعضهم نوعًا لينبهوا بذلك علىٰ اندراج النوع المذكور في اللفظ لا أنهم أرادوا الحصر

قال ابن تيمية في مقدمة في أصول التفسير:

” والخلاف بين السلف في التّفسير قليلٌ، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلىٰ اختلاف تنوع لا تضاد، وذلك صنفان “

ثم ذكر الصنف الثاني فقال:

” الصنف الثاني: أن يذكر كُلًّا منهم في الاسم العام بعض أنواعه، وتنبيه المستمع علىٰ النوع لا علىٰ سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه

مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى لفظ الخبر، فأُري رغيفاً، وقيل: هذا، فالإشارة إلىٰ نوع هذا لا إلىٰ الرغيف وحده

مثال ذلك: ما نقل في قوله: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات}

فمعلوم أنَّ الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات، والمنتهك للمحرمات، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات، والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات

ثم إن كُلًّا منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات، كقول القائل: السابق الذي يصلي في أول الوقت، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلىٰ الاصفرار

ويقول الآخر: فالسابق المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات، والظالم آكل الربا أو مانع الزكاة، والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة، ولا يأكل الربا، وأمثال هذه الأقاويل

فكل قول فيه ذكر نوع داخل في الآية ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له وتنبيهه به علىٰ نظيره ”

هذا وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخلاف في صفة الهرولة...

دلالة الحس علىٰ الخالق وصفاته وأفعاله...

هل تثبت صفة البشبشة؟