معاني النسيان في القرآن الكريم...
بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:
قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن [٥٨٩]:
” النسيان: ضد الحفظ، كقوله: {إني نسيت الحوت}، وقال: {لا تؤاخذني بما نسيت}
والنسيان: الترك، كقول اللَّه تعالىٰ: {ولقد عهدنا إلىٰ آدم من قبل فنسي}، أي ترك
وقوله: {فذوقوا بما نسيتوا لقاء يومكم هذا}، أي بما تركتم الإيمان بلقاء هذا اليوم، {إنا نسيناكم}، أي تركناكم
وقوله: {لا تنسوا الفضل بينكم}، أي لا تتركوا ذلك “
وقال أحمد بن فارس في مقاييس اللغة [٢٤١ - ٢٤٢]:
” نَسِيَ: النُّونُ وَالسِّينُ وَالْيَاءُ أَصْلَانِ صَحِيحَانِ: يَدُلُّ أَحَدُهُمَا عَلَىٰ إِغْفَالِ الشَّيْءِ، وَالثَّانِي عَلَىٰ تَرْكِ شَيْءٍ...
وَعَلَىٰ ذَلِكَ يُفَسَّرُ قَوْلُهُ تَعَالَىٰ: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}، أَرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: فَتَرَكَ الْعَهْدَ “
أقول: كأن العرب تضع النسيان موضع الترك من باب الاستعارة إذ الترك بسببٍ من النسيان والغفلة
وهذا كما يضعون اليد موضع القدرة والطاقة إذ ذاك بسببٍ من اليد فيقولون مثلًا: ما لي بهذا الأمر من يد أي من قوة
وفي حديث الدجال: (فبينَما هم كذلِكَ إذ أوحىٰ اللَّهُ إليهِ: يا عيسىٰ إنِّي قد أخرَجتُ عبادًا لي، لا يَدانِ لأحَدٍ بقتالِهِم)
أي لا طاقة لأحد بقتالهم
ومجيء النسيان بمعنىٰ الترك عند العرب أمر ثابت
قال يحيىٰ بن سلام في تفسيره:
” قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ}، يَعْنِي: فَتَرُدَّ الْعَهْدَ
يَقُولُ: فَتَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ: أَلا يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ “
وقال عبد الرزاق في تفسيره:
” أرنا مَعْمَرٌ, عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَىٰ: {فَنَسِيَ}، قَالَ: تَرَكَ أَمْرَ رَبِّهِ “
هذا إسناد صحيح، راوية ابن أبي نجيح من كتاب القاسم بن أبي بزة فلا تُعلُ بعدم السماع
وقوله تعالىٰ: (وَلَقَد عَهِدنا إِلىٰ آدَمَ مِن قَبلُ فَنَسِيَ وَلَم نَجِد لَهُ عَزمًا}
إنما حُمِلَ النسيان فيه علىٰ الترك لا المعنىٰ الآخر وإن كان هو الأغلب لما قُرِنَ به من الكلام الدال علىٰ تقصير آدم ﷺ وضعف عزمه عن أمر اللَّه، وهو قوله: (ولم نجد له عزما)، أي علىٰ ما عهدنا إليه
وأيضًا ففيما سبق من الآيات من قوله: (فعصىٰ آدم ربه فغوى ١٢١ ثم اجتباه ربه فتاب عليه ثم هدى)، دليل علىٰ ترك عهد كان قد سبق به عصىٰ آدم ﷺ ربه فغوىٰ، ثم تاب عليه به من بعد وهدىٰ
ولو كان فعل آدم لنسيان وغفلة ما استحق به العصيان ثم من بعد التوبة، ألا ترىٰ إلىٰ قوله تعالىٰ: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)؟
وقال الطبري في قوله تعالىٰ: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به}:
” وتركوا حظهم من ميثاقي الذي أخذته عليهم بـالوفاء بعهدي وضيعوا أمري. كما:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: {وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إنَّا نَصَارَى أخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكَّرُوا بِهِ}
نسوا كتاب اللَّه بين أظهرهم، وعهد اللَّه الذي عهده إليه، وأمر اللَّه الذي أمرهم به. “
هذا إسناد صحيح لقتادة، والمراد: تركوا كتاب اللَّه بين أظهرهم كما قال تعالىٰ عن أهل الكتاب: {فنبذوه وراء ظهورهم}
قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الإيمان:
” ٢٦ - حدثنا الأشجعي، عن مالك بن مغول، عن الشعبي: في هذه الآية، قال: أما إنه كان بين أيديهم، ولكن نبذوا العمل به ”
هذا إسناد صحيح
وعلىٰ هذا الكلام الذي ذكرناه فقوله تعالىٰ:
{المُنافِقونَ وَالمُنافِقاتُ بَعضُهُم مِن بَعضٍ يَأمُرونَ بِالمُنكَرِ وَيَنهَونَ عَنِ المَعروفِ وَيَقبِضونَ أَيدِيَهُم نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم إِنَّ المُنافِقينَ هُمُ الفاسِقونَ}
إنما النسيان فيه نسيان ترك لا نسيان ذهول عن الشيء لقوله تعالىٰ: {وما كان ربك نسيا}، وقوله: (فلا يضل ربي ولا ينسىٰ)
فإنما صُرِفَ ما في الآية من النسيان إلىٰ معنىٰ الترك بحجة بينة من الكتاب العزيز
وإنما يتوجه كل كلام إلىٰ الأغلب من معانيه المستعملة عند العرب إلا ببينة من الكتاب المسطور أو الأثر أو المأثور الإجماع المشهور علىٰ ما سوىٰ ذلك
فإن كان ثمة شيء من ذلك فذاك وإلا فحقيق بالكلام أن يُثبَت علىٰ ما هو أغلب من معانيه وأعرف
هذا وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد
تعليقات
إرسال تعليق