بكاء السماء والأرض علىٰ المؤمن
بسم اللَّه وبه أعتضد وأستعين والصلاة والسلام علىٰ رسوله الأمين، وبعد:
قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن من باب الاستعارة:
” ومنه قوله: {فما بَكَت عَلَيهِمُ السَّماءُ وَالأَرضُ وَما كانوا مُنظَرينَ}
تقول العرب إذا أردت تعظيم مَهلَكِ رجلٍ عظيم الشأن رفيع المكانِ عام النفعِ كثير الصنائعِ:
أظلمت الشمس له، وكسف القمر لفقده، وبكته الريح والسماء والأرض، يريدون المبالغة في وصف المصيبة
وليس ذلك بكذب، لأنَّهم جميعًا متواطئون عليه، والسّامع له يعرف مذهب القائل فيه
هكذا يفعلون في كل ما أرادوا أن يعظموه ويستقصوا صفته، ونيتهم في قولهم:
أظلمت الشمس: أي كادت تظلم، وكسف القمر أي كاد يكسف، وربما أظهروا كاد، قال ابن مفرغ الحِميري يرثي رجلًا:
الرّيحُ تَبكِي شَجْوَه ... والبَرقُ يلمَعُ في غَمَامَه، وقال آخر:
الشّمسُ طَالِعةٌ لِيسَت بكَاسِفةٍ ... تَبكِي عليك، نُجُوم اللّيلِ والقَمَرا
أراد: الشمس طالعةٌ تبكي عليك، وليست من طلوعها كاسفة النجوم والقمر: لأنَّها مظلمة، وإنَّما تكسف بضوئها، فنجوم اللّيل بادية النهار
وقد اختلف الناس في قول اللَّه عز وجل: {فما بَكَت عَلَيهِمُ السَّماءُ وَالأَرضُ}
فذهب قوم مذاهب العرب في قولهم: بكته الريح والبرق، كأنَّه يريد أن اللّٰه عز وجل حين أهلك فرعون وثومه، وغرّقهم، وأورث منازلهم وجناتهم غيرهم:
لم يبكِ عليهم باكٍ، ولم يجزع جازعٌ، ولم يوجد لهم فقدٌ
وقال آخرون: أراد: فما بكىٰ عليهم أهل السماء، ولا أهل الأرض، فأقام السماء والأرض مقام أهليهما
كما قال تعالىٰ: {واسأل القرية}، أراد: أهل القرية، وقال: {حتىٰ تضع الحرب أوزارها}، أي يضع أهل الحرب السّلاح
وقال ابن عباس: لكل مؤمن باب في السماء يصعد فيه عمله، وينزل منه رزقه
فإذا مات بكىٰ عليه الباب، وبكت عليه آثاره في الأرض ومصلّاه، والكافر لا يصعد له عمل، ولا يبكي له باب في السماء ولا أثره في الأرض. “
أقول: القول الأخير هو المتعين فهو قول أهل التأويل
قال الطبري في تفسيره:
” وقيل: إنما قيل (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ)، لأن المؤمن إذا مات، بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحًا، ولم تبكيا علىٰ فرعون وقومه، لأنه لم يكن لهم عمل يَصعْد إلىٰ اللَّه صالح، فتبكي عليهم السماء، ولا مسجد في الأرض، فتبكي عليهم الأرض
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، عن المنهال، عن سعيد بن جُبير، قال: أتىٰ ابن عباس رجل، فقال: يا أبا عباس أرأيت قول اللٌَه تبارك وتعالىٰ: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)
فهل تبكي السماء والأرض علىٰ أحد؟، قال: نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا له باب في السماء منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله
فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله، وينزل منه رزقه، بكىٰ عليه، وإذا فقده مُصَلاه من الأرض التي كان يصلي فيها، ويذكر اللَّه فيها بكت عليه
إن قوم فرعون لم يكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلىٰ السماء منهم خير
قال: فلم تبك عليهم السماء والأرض “
هذا إسناد صحيح
وقال الطبري:
” حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن ويحيى قالا ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: كان يقال: تبكي الأرض علىٰ المؤمن أربعين صباحًا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي يحيىٰ القَتَّات، عن مجاهد، عن ابن عباس بمثله “
الإسناد الأول صحيح لمجاهد وهو أخص تلاميذ ابن عباس في التفسير وعنه أخذ كل التفسير
فالأصل أنه أخذ هذا الكلام عن ابن عباس عليهما السلام
وهذا الأثر عن مجاهد مع أثر ابن عباس السابق يقوي ثبوت أثر أبي يحيىٰ القتات:
فهو وإن كان ضعيفًا إلا أنه يروي موقوفًا قصيرًا مخالفًا للجادة فيحتمل من مثله بالأصل
والراوي عنه وهو سفيان إمام لا يروي المناكير ولا معارض له
وقد عُضِد موقوف أبي يحيىٰ بقوة: فأثره مما يُجزم بأنه من صحيح حديثه رحمه اللَّه مع كل هذه القرائن
وهذا الأثر يقوي ثبوت المعنىٰ المذكور وما شابهه عن ابن عباس عليهما السلام
وقال عبد الرزاق في تفسيره:
” ٢٨١٧ - عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ}
قَالَ: هِيَ بِقَاعُ الْمُؤْمِنِ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي فِيهَا مِنَ الْأَرْضِ تَبْكِي عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ، وَبِقَاعُهُ مِنَ السَّمَاءِ الَّتِي يُرْفَعُ فِيهَا عَمَلُهُ “
هذا إسناد صحيح، ومعمر قد حفظ كلام قتادة فأما الأسانيد عنه فلا
وقال الطبري في تفسيره:
” حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء في قوله: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ)، قال: بكاؤها حمرة أطرافها ”
وهذا إسناد صحيح لعطاء بن أبي رباح التابعي الفقيه اللَّه يرحمه
وأما القول الذي ذكره ابن قتيبة بأن المراد: أهل السماء والأرض فقول ساقط: إذ لا دليل ممّا بقي من الكلام علىٰ ما أُلقِيَ منه
وغير جائز دفع التأويل إلىٰ وجه الحذف والاختصار بلا دلالة تدل علىٰ ذلك مما بقي من الكلام
واللَّه العالم، هذا وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد
تعليقات
إرسال تعليق