الكلام عن الاستثناء في الإيمان...
بسم اللَّه وبه أستعين ولا حول ولا قوة إلا باللَّه المؤمن الأمين، وبعد:
فإن الإيمان والإسلام لفظان إذا افترقا اجتمعا وإذا اجتمعا افترقا
وفي حين الحكم علىٰ الناس يكون الإسلام بمعنىٰ الكلمة أي قول الشهادتين الذي هو أصل الإيمان ويكون الإيمان بمعنىٰ العمل الذي نعت اللَّه به المؤمنين الموجب لحقيقة الإيمان وكماله
فالاستثناء وهو قول إن شاء اللَّه أو أرجو وما شابه واجب إن حكمنا بالإيمان
فإن حكمنا بالإيمان - وهو هاهنا بمعنىٰ العمل -، فنستثني قائلين: مؤمن أرجو، مؤمن إن شاء اللَّه
قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه:
” بَاب تَأَلُّفِ قَلْبِ مَنْ يَخَافُ عَلَىٰ إِيمَانِهِ لِضَعْفِهِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْقَطْعِ بِالإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ
٢٣٦ - (١٥٠) حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ؛ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَسْمًا.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ!، أعْطِ فُلَانًا فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ، فقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أوْ مُسْلِمٌ، أَقُولُهَا ثَلَاثًا، وَيُرَدِّدُهَا عَلَيَّ ثَلَاثًا: أوْ مُسْلِمٌ
ثُمَّ قَال: إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ”
هذا الحديث دلالته بينة علىٰ جواز القطع بالإسلام من دون استثناء بخلاف الإيمان، فإن القطع به من دون استثناء حرام، لأن النبي ﷺ ما أقر سعدًا علىٰ قيله
وقد قال الإمام محمد بن شهاب الزهري معلقًا علىٰ قول النبي ﷺ: (فنرىٰ أن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل)
يعني أن القائل بالشهادتين الذي قد دخل الإسلام، ومعه أصله، هو المعني بقول النبي ﷺ: (أومسلم)، فمن كان كذلك فهو المسلم، يُقطَع له بذلك دون استثناء كما قال النبي ﷺ
وأما المؤمن، فهو العامل بما نعت اللَّه ووصف من أعمال الإيمان وشرائعه، المستكمل للإيمان، فمن كان كذلك فهو المؤمن
ولا يُقطَع لأحد بذلك دون استثناء أو نص شرعي
ولهذا قال مسلم رحمه اللَّه: ( والنهي عن القطع بالإيمان من غير دليل قاطع )
وهذا الحكم يتضح بفهم مآخذ الاستثناء في الإيمان عند أهل السنة، فمآخذه فيه هو في قبول الإيمان الذي هو العمل
فأنت لا تجزم أقُبِلَ منك أم لا؟، لأنك لا تدري أفرطت في أداء العمل وجئت به علىٰ ما نعت اللَّه وافتُرِضَ عليك أم لا؟
فأنت لا تعلم بحالك عند اللَّهِ سبحانه وتعالىٰ، فلهذا تستثني إن حكمت بالإيمان قائلًا: أنا مؤمن إن شاء اللَّه، أو مؤمن أرجو، وغير ذلك
قال الخلال في السنة:
” ١٠٤٩ - وأخبرني عبد الملك بن عبد الحميد، أنه سأل أبا عبد اللَّه عن قوله ورأيه في: مؤمن إن شاء اللَّه؟
قال: أقول مؤمن إن شاء اللَّه، ومؤمن أرجو: لأنه لا يدري كيف أداؤه للأعمال، علىٰ ما افترض عليه أو لا؟
١٠٤٨ - حدثني محمد بن أبي هارون، أن اسحاق حدثهم قال: سمعت أبا عبد اللَّه يقول: اذهب إلىٰ حديث ابن مسعود رضي اللَّه عنه في الاستثناء في الإيمان
لأن الإيمان قول، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول، ونخشىٰ أن نكون فرطنا في العمل، فيعجبني أن نستثني في الإيمان، تقول: أنا مؤمن إن شاء اللَّه
٩٦٦ - أخبرنا سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني، قال: سمعت أبا عبد اللَّه قال له رجل: هل علي في هذا شيء إن قلت: أنا مؤمن؟
قال أبو عبد اللَّه: لا تقل: أنا مؤمن حقًّا، ولا البتة، ولا عند اللَّهِ ”
هذا كله صحيح عن أحمد رحمه اللَّه، ومحمد بن أبي هارون الوراق رجل صالح يحتمل عن شيخه المباشر
فيقال بعد هذا: لما خشينا التفريط في العمل وعدم أدائه كما افتُرِضَ علينا وعلىٰ ما نعت اللَّه، خشينا قبول العمل ولم ندري ما حالنا عند ربنا تعالىٰ اسمه
فاستثنينا بعد ذلك لهذه العلة لئلا نجزم بقبول الحسنات والعمل فنشهد بكمال الإيمان وحقيقته عند اللَّه تعالىٰ
قال إسحاق بن راهويه في مسنده [٦٧٠]:
" أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَعْيُنَ قَالَ: قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَذَكَرَ لَهُ الْإِيمَانَ
فَقَالَ: قَوْمٌ يَقُولُونَ إِيمَانُنَا مِثْلُ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ إِمَّا فِيهِ زِيَادَةٌ إِمَّا فِيهِ نُقْصَانٌ، هُوَ مِثْلُهُ سَوَاءٌ، وَجِبْرِيلُ رُبَّمَا صَارَ مِثْلَ الْوَضْعِ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَىٰ وَذَكَرَ أَشْبَاهَ ذَلِكَ
قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ قَوْمًا يَقْولُون: إِنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ حِينَ كَانَ يَقُولُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَانَ ذَاكَ مِنْهُ شَكٌّ
فقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: أَتَرَى سُفْيَانَ كَانَ يَسْبِقُنِي فِي وَحْدَانِيَّةِ الرَّبِّ أَوْ فِي مُحَمَّدٍ ﷺ، إِنَّمَا كَانَ اسْتَثْنَاءُهُ فِي قَبُولِ إِيمَانِهِ وَمَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ
قَالَ ابْنُ أَعْيُنَ: قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: وَالِاسْتِثْنَاءُ لَيْسَ بِشَكٍّ، أَلَا تَرَى إِلَىٰ قَوْلِ اللَّهِ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ
قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: هَذَا نَهَارٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا كَانَ شَكًّا
قَالَ: وَقَالَ شَيْبَانُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا تَقُولُ فِيمَنْ يَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَنَحْوَ هَذَا، أَمُؤْمِنٌ هُوَ؟
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَا أُخْرِجُهُ مِنَ الْإِيمَانِ، فَقَالَ: عَلَىٰ كِبَرِ السِّنِّ صِرْتَ مُرْجِئًا؟، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، إِنَّ الْمُرْجِئَةَ لَا تَقْبَلُنِي
أَنَا أَقُولُ: الْإِيمَانُ يَزِيدُ، وَالْمُرْجِئَةُ لَا تَقُولُ ذَلِكَ، وَالْمُرْجِئَةُ تَقُولُ: حَسَنَاتُنَا مُتَقَبَّلَةٌ، وَأَنَا لَا أَعْلَمُ تُقُبِّلَتْ مِنِّي حَسَنَةٌ ”
فقوله: ( إنما كان استثناء في قبول إيمانه وما هو عند اللَّه، وأنت لا أعلم تقبلت مني حسنة )
هذا هو مآخذ الاستثناء، وهو القبول
ولهذا فأهل السنة لا يعلمون أقُبِلَت منهم حسناتهم أم لا، وإنما يرجون القبول ولا يعلمون بحالهم عند ربهم تعالىٰ ذكره
وقال عبد اللَّه بن أحمد في السنة [٣١١]:
” ٦٠٩ - حَدَّثَنِي أَبِي، نا وَكِيعٌ، قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: النَّاسُ عِنْدَنَا مُؤْمِنُونَ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمَوَارِيثِ وَنَرْجُو أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ وَلَا نَدْرِي مَا حَالُنَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ”
قال أبو عبيد القاسم بن سلام في الإيمان [٣٨]:
” وَلِهَذَا كَانَ يَأْخُذُ سُفْيَانُ وَمَنْ وَافَقَهُ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ
وإِنَّمَا كَرَاهَتُهُمْ عِنْدَنَا أَنْ يبتُّوا الشهادةَ بِالْإِيمَانِ مَخَافَةَ مَا أعلمتُكم فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنَ التزكيةِ وَالِاسْتِكْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ
وَأَمَّا عَلَىٰ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَ أَهْلَ الْمِلَّةِ جَمِيعًا مُؤْمِنِينَ لِأَنَّ وِلَايَتَهُمْ وَذَبَائِحَهُمْ وَشَهَادَاتِهِمْ وُمُنَاكَحَتَهُمْ وَجَمِيعَ سُنَّتِهِمْ: إِنَّمَا هِيَ عَلَىٰ الْإِيمَانِ ”
وملخص الكلام وجامعه أن الإيمان الظاهر الذي به يُعطَىٰ المرء أحكام المؤمن في الدنيا ثابت
فكل من كان من أهل الملة يُسمَّىٰ مؤمنًا لذاك الاعتبار، ويُعطَىٰ أحكام المؤمن في الدنيا، فيُعامَل علىٰ هذا
فمن قال بأنه مؤمن، وأراد أنه كذلك علىٰ الظاهر الذي يوجب له أحكام المؤمن في الدنيا، فهو مصيب في مراده
فهذا كذلك غير أنه لا يترك الاستثناء قائلًا: أرجو، أو إن شاء اللَّه، وما شابه ذلك، لأنه إن لم يفعل ذلك التبس قوله بقول المرجئة
وباب الأحكام الأصل فيه أنه علىٰ الظاهر، وعلىٰ هذا تجري الأحكام وتُطلَق، ولكن لما كان في إطلاق الحكم بالإيمان لبسًا بينًا ومدخلًا لأهل الرجاء في تثبيت مذهبهم، كان الصحيح ترك ذلك إلا مع البيان والإيصاح
وذاك أنه لما ظهر أهل الإرجاء حاكمين بالإيمان حقيقةً ممتحنين للناس بقولهم: أمؤمن أنت؟
كان لا بد من البيان إذا ما حكم المرء بالإيمان، فلا بد من أن يبين أنه غير قاصد قصد المرجئة بالحكم بالإيمان علىٰ الحقيقة وعند اللَّه تعالىٰ
فلا حيلة من أن يُظهِرَ الاستثناء
وليُقطَع بهذا الطريق علىٰ المرجئة الذين إن حُكِمَ بالإيمان دون استثناء علىٰ الظاهر، احتجوا بذلك ظنًّا منهم أنه علىٰ الحقيقة، فيحدثوا لبسًا علىٰ العوام
والمرجئة كثيرًا ما يخلطون ولا يفصلون بين الحكم علىٰ الظاهر والحكم عند اللَّهِ تعالىٰ، فيحتجون للثاني بالأول
ومن ذلك الحكم علىٰ الظاهر قول عائشة رضي اللَّه عنها: ( لقد كان رسول اللَّه ﷺ يصلي الفجر، فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات في مروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد )
وكذا قول رسول اللَّهِ ﷺ الذي احتجت به المرجئة حين قال عن الجارية رضي اللَّه عنها: ( اعتقها فإنها مؤمنة )، فإنما أراد: مؤمنة علىٰ الظاهر، فتجري عليها أحكام الإيمان، فهي صالحة للعتق
وهذا كقوله تعالىٰ: {فتحرير رقبة مؤمنة}، أي مؤمنة في الظاهر
ولو كان المراد بالرقبة المؤمنة التي هي كذلك في الباطن عند اللَّه، لاستحال ذلك، إذ علم الإيمان القلبي لا يكون منا، وتعليق حكم بذاك تعجيز
فإنما الحكم علىٰ الظاهر، ولهذا فالمنافق ما لم يظهر النفاق يُعطَىٰ أحكام المسلمين ويحكم له بالإسلام علىٰ الظاهر كما حصل في زمن رسول اللَّهِ ﷺ
وأما الإيمان باعتبار حقيقته وما هو عليه، فغير جائز الجزم به لأحد ولكن يُستثنَىٰ فيه لئلا نقطع بقبول عملنا وحسناتنا، فنقطع بكمال الإيمان وحقيقته عند اللَّه تعالىٰ
فمن قال: إنه مؤمن، وأراد أنه كذلك علىٰ الحقيقة أو عند اللَّه، فهو مرجئ مبتدع ضال
قال الآجري في الشريعة:
” مِنْ صِفَةِ أَهْلِ الْحَقِّ، مِمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ، لَا عَلَى جِهَةِ الشَّكِّ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّكِّ فِي الْإِيمَان، ولَكِنَّ خَوْفَ التَّزْكِيَةِ لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الِاسْتِكْمَالِ لِلْإِيمَانِ
لَا يَدْرِي أَهُوَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ أَمْ لَا؟، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ إِذَا سُئِلُوا: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟
قالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَأَشْبَاهِ هَذَا، وَالنَّاطِقُ بِهَذَا، وَالْمُصَدِّقُ بِهِ بِقَلْبِهِ: مُؤْمِنٌ
وَإِنَّمَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ لَا يَدْرِي: أَهُوَ مِمَّنْ يَسْتَوْجِبُ مَا نَعَتَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ أَمْ لَا؟
هذا وَطَرِيقُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ عنْدَهُمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْأَعْمَالِ لَا يَكُونُ فِي الْقَوْلِ، وَالتَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ، وإِنَّمَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْأَعْمَالِ الْمُوجِبَةِ لِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ
وَالنَّاسُ عِنْدَهُمْ عَلَىٰ الظَّاهِرِ مُؤْمِنُونَ، بِهِ يَتَوَارَثُونَ، وَبِهِ يَتَنَاكَحُونَ، وَبِهِ تَجْرِي أَحْكَامُ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّ الِاسْتِثْناء مِنْهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّاهُ لَكَ ”
وهذا تلخيص طيب يوضح أن قول الشهادتين وتصديق القلب لا استثناء فيه إذ لا يدخل في ذلك مآخذ الاستثناء
ولهذا يقول السلف: (ما أشك في إيماني، نستثني بغير شك)، وما شابه هذا
وإنما أرادوا أننا نستثني بغير شك في تصديق القلب والاعتقاد، وفي قول الشهادة الذي استقبح الإمام أحمد الاستثناء فيه كما سيأتي
فذلك لا يكون فيه الاستثناء، لأنك تجزم به وتدري، وهو إيمان، فالناطق بالقول، والمصدق بقلبه المعتقد مؤمن
وإنما الشك والتخوف في الاستثناء علىٰ العمل الذي يوجب كمال الإيمان والإسلام
قال الآجري في الشريعة:
” ٣٥٥ - حدثنا عمر بن أيوب السقطي، ثنا محمد بن سليمان لوين قال: قيل لسفيان بن عيينة: الرجل يقول أمؤمن أنت؟
قال: ما أشك في إيماني، وسؤالك إياي بدعة
وقال: ما أدري أنا عند اللَّه شقي أو سعيد، مقبول العمل أم لا؟ ”
هذا خبر طيب، وهو في السنة لعبد اللَّه أيضًا
وليُعلَم أن الكلمة التي لا استثناء عليها لها شروط وموانع، فليس كل من قال بالشهادتين مسلمًا نقطع له بذلك، وإن لم يأت بالشروط
وأن العمل الذي تستثني لأجله داخل فيه فعل القلب بالحياء والوجل وما أشبه ذلك، وفعل اللسان بالذكر والدعاء ونحو هذا، وفعل الجوارح الظاهرة بالصلاة والصيام وما كان كذلك
فالأفعال القلبية كالخشية واللسانية كالذكر لا نقضي بقبولها إذ لا نعلم أفعلناها علىٰ ما أُمِرَنا وعلىٰ ما نعت اللَّه أم فرطنا وأنقصنا وضيعنا
فهذا كذلك، وقول السلف: (القول جئنا به)
إنما مرادهم بالقول قول الشهادتين خصوصًا لا كل قول، فالذكر باللسان مثلًا يدخل في الاستثناء
قال الخلال في السنة:
” ١٠٥٠ - وأخبرني الحسن بن عبد الوهاب قال: ثنا أبو بكر بن حماد المقرئ، قال: وأخبرني بعض أصحابنا، قال: سمعت أبا عبد اللَّه يقول: لو كان القول كما تقول المرجئة: أن الإيمان قول، ثم استثنىٰ بَعدُ علىٰ القول
لكان هذا قبيحًا أن تقول: لا إله إلا اللّٰه إن شاء اللّٰه، ولكن الاستثناء علىٰ العمل ”
أقول: أصحاب ابن حماد كثرتهم تجبر إبهامهم
والكلام بين في أن القول الذي تقصده المرجئة، والذي يُستقبَح الاستثناء فيه عند السلف إنما هو قول الشهادة
وقال ابن رجب الحنبلي في فتح الباري: (ومراده - أي أحمد - بالقول: التلفظ بالشهادتين خاصة)
وقال الآجري في الشريعة:
” ٢٧٨ - حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ سُئِلَ عَنِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ مَا تَقُولُ فِيهِ؟
قَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَا أُعِيبُهُ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إِذَا كَانَ يَقُولُ إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ
وَاسْتَثْنَىٰ مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا، لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ عَلَىٰ الشَّكِّ، إِنَّمَا تَسْتَثْنِي لِلْعَمَلِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}، فهَذَا اسْتِثْنَاءٌ بِغَيْرِ شَكٍّ ”
هذا إسناد صحيح، وقوله: (وَاسْتَثْنَىٰ مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا، لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ عَلَىٰ الشَّكِّ، إِنَّمَا تَسْتَثْنِي لِلْعَمَلِ)
يبين أن يقصد بقوله ليس علىٰ الشك أي في قول الشهادة، وكذا قول القلب، وإنما الاستثناء للعمل احتياطًا ومخافة وشكًّا في قبوله
وليُعلَم أن المرجئة يُصيِّرون الإيمان والإسلام شيئًا واحدًا، فلا يتبعض عندهم، وإذا ذهب بعض الإيمان الواجب ذهب كله، وإذا تحقق بعضه تحقق كله
فالاستثناء عندهم كفر، لأن الاستثناء في بعض الإيمان استثناء في الشهادة وتصديق القلب أو معرفته عندهم
والناس علىٰ أصلهم إما كافر وإما مسلم مؤمن كامل الإيمان، ولا يقولون بمرتبة بين الأثنين
قال الآجري في الشريعة:
” ٢٧٩ - وَحَدَّثَنَا جَعْفَرٌ الصَّنْدَلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: يُعْجِبُهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّمَا النَّاسُ رَجُلَانِ: مُؤْمِنٌ، وَكَافِرٌ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ تَعَالَىٰ: {وَآخَرُونَ مُرْجُونَ لِأَمْرِ اللَّهِ، إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ، وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} ”
هذا إسناد صحيح، وقد قال أحمد كما في السنة للخلال: (هم يجعلون هذا كله شيئًا واحدًا، ويجعلونه مؤمنًا مسلمًا شيئًا واحدًا علىٰ إيمان جبريل، ومستكمل الإيمان)
وبهذا يستبين أصل قول المرجئة الذي تفرع عنه ضلالات وبدع كثيرة
هذا وما ذكرت من أن العمل يعم فعل اللسان والقلب كما يعم الفعل الظاهر بالجوارح
فالأمر كذلك في النصوص عند السلف
قال أبو عبيد القاسم في كتاب الإيمان:
” فَهَكَذَا الإيمانُ هُوَ دَرَجَاتٌ وَمَنَازِلٌ، وَإِنْ كَانَ سَمَّىٰ أَهْلَهُ اسْمًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالٍ تَعَبَّدَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ، وفَرَضَهُ عَلَىٰ جَوَارِحِهِمْ
وَجَعَلَ أَصْلَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ، ثُمَّ جَعَلَ الْمَنْطِقَ شَاهِدًا عَلَيْهِ، ثُمَّ الْأَعْمَالَ مُصَدِّقَةً لَهُ، وَإِنَّمَا أَعْطَىٰ اللَّهُ كُلَّ جَارِحَةٍ عَمَلًا لَمْ يُعْطِهِ الْأُخْرَىٰ
فَعَمَلُ الْقَلْبِ: الِاعْتِقَادُ، وَعَمَلُ اللِّسَانِ: الْقَوْلُ، وَعَمَلُ الْيَدِ: التَّنَاوُلُ، وَعَمَلُ الرِّجْلِ: المشي، وكلها يجمعها اسم الْعَمَلِ.
فَالْإِيمَانُ عَلَىٰ هَذَا التَّنَاوُلِ إِنَّمَا هُوَ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَىٰ الْعَمَلِ، مِنْ أَوَّلِهِ إِلَىٰ آخِرِهِ، إِلَّا أَنَّهُ يَتَفَاضَلُ فِي الدَّرَجَاتِ عَلَىٰ مَا وَصَفْنَا
وزعم مَنْ خَالَفَنَا أَنَّ الْقَوْلَ دُونَ الْعَمَلِ، فَهَذَا عِنْدَنَا مُتَنَاقِضٌ، لِأَنَّهُ إِذَا جَعَلَهُ قَوْلًا فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ عَمَلٌ، وَهُوَ لَا يَدْرِي بِمَا أَعْلَمْتُكَ مِنَ الْعِلَّةِ الْمَوْهُومَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي تَسْمِيَةِ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ عَمَلًا
وَتَصْدِيقُهُ فِي تَأْوِيلِ الْكِتَابِ فِي عَمَلِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، قَوْلُ اللَّهِ فِي الْقَلْبِ: ﴿إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ﴾، وَقَالَ: ﴿إِنْ تَتُوبا إِلَىٰ اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما﴾، وَقَالَ: ﴿الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}
وقال رسول اللَّه ﷺ: (إن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وهي القلب)
وإذا كان القلب مطمئنًا مرة، ويَصغَى أخرىٰ، ويوجل ثالثة، ثم يكون منه الصلاح والفساد، فأي عمل أكثر من هذا؟
فَهَذَا مَا فِي عَمَلِ الْقَلْبِ.
وَأَمَّا عَمَلُ اللِّسَانِ، فَقَوْلُهُ: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطًا}
فَذَكَرَ الْقَوْلَ ثم سماه عملًا
ثُمَّ قَالَ: ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ﴾
هَلْ كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَعَهُمْ إِلَّا دُعَاؤُهُ إِيَّاهُمْ إِلَىٰ اللَّهِ، وَرَدُّهُمْ عَلَيْهِ قَوْلَهُ بِالتَّكْذِيبِ، وَقَدْ أَسْمَاهَا هَاهُنَا عَمَلًا
ثم قال: ﴿اِعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْرًا}، فَأَكْثَرَ مَا يَعْرِفُ النَّاسُ مِنَ الشُّكْرِ أَنَّهُ الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُكَافَأَةُ قَدْ تُدْعَىٰ شُكْرًا
فَكُلُّ هَذَا الَّذِي تَأَوَّلْنَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَمَا وَجَدْنَا أَهْلَ الْعِلْمِ يَتَأَوَّلُونَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُسْتَفِيضُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ غَيْرَ الْمَدْفُوعِ تَسْمِيَتُهُمُ الْكَلَامَ عَمَلًا
ومنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: لَقَدْ عَمِلَ فُلَانٌ الْيَوْمَ عَمَلًا كَثِيرًا، إِذَا نَطَقَ بِحَقٍّ وَأَقَامَ الشَّهَادَةَ، وَنَحْوَ هَذَا ”
فذكر أن ما تأوله في النصوص من تسمية فعل اللسان والقلب عملًا هو ما تأوله أهل العلم من السلف
فالعمل علىٰ هذا إنما يعم فعل اللسان والقلب كما يعم الفعل الظاهر باليد والرجل
وكل ذلك منه إيمان، فإيمان بفعل القلب، وإيمان بفعل اللسان، وإيمان بفعل اليد والرجل
فكل هذا داخل فيه الاستثناء سوىٰ فعل القلب بالتصديق كما ذكر الآجري، وفعل اللسان بالشهادتين
وقد تقدم استقباح أحمد الاستثناء في ذلك
وما ذكره أبو عبيد رحمه اللَّه حجة بالغة علىٰ أهل الإرجاء، لأنهم يدخلون قول اللسان بالشهادة في الإيمان دون العمل
وهذا تناقض، لأن قول اللسان عمل، فقد أدخلوا بعض العمل دون بعض، وهو إذا دخل بعضه دخل كله، وجاز أن يكون من الإيمان كما جاز أن يكون بعضه من الإيمان
وليُعلَم في الختام أن مآخذ الاستثناء بالأصل هو القبول، وقد تُذكَر بعض المآخذ تبعًا للأصل أو مع الأصل دون أن تُجعَل أصلًا وحيدًا
ومن تلك المآخذ الاستثناء للتبرك أو من أجل العاقبة والخاتمة - يعني الاستثناء لأنك لا تدري هل تموت علىٰ الإيمان الموجب للكمال وإن أتيت به أم لا -
قال ابن بطة في الإبانة الصغرىٰ:
” ٢٤٤ - ثم الاستثناء في الإيمان، وهو أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء اللَّه، كذا كان يقول عبد اللَّه بن مسعود، وبه أخذت العلماء من بعده ... إلىٰ أن قال: ولكن يجب علىٰ كل من يستثني أن يعلم:
كيف يستثني؟، ولأي سبب وقع الاستثناء؟، لئلا يظن المخالف أن استثناءه من قِبلِ الشك
فقد كان سفيان الثوري وابن المبارك يقولان: الناس عندنا مؤمنون في المواريث والأحكام، ولا ندري كيف هم عند اللَّه عز وجل، وعلىٰ أي دين يموتون
لأن الاستثناء واقع علىٰ ما يُستَقبل، لأن قول العبد: أنا مؤمن إن شاء اللَّه، معناه: إن قَبِل اللَّهُ إيماني، وأماتني عليه، بمنزلة رجل صلىٰ صلاة فقال: قد صليت، وعلىٰ اللَّه القبول
وكذلك الحج وكذلك إذا صام، أو عمل عملًا، فإنما يقع استثناؤه فيه علىٰ الخاتمة، وعلىٰ قبول اللَّه إياه، لا أنه شاك فيما قد قاله وعمله
وقد يُرَىٰ الرجل يصلي فيقال له: قد صليت؟، فيقول: نعم، إن قُبِلَت ”
هنا بين ابن بطة رحمه اللَّه أن الاستثناء واقع علىٰ العمل المُستَقبل لعلتي قبول العمل من اللَّه تعالىٰ والعاقبة
والعلة الثانية تبعية أو بجانب العلة العلة الأولىٰ لا أنها أصلية مفردة
واللَّه العالم، وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد
تعليقات
إرسال تعليق