العلم الفعلي للَّه عز وجل...
بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:
فقد وردت آيات في غير موضع كنحو قوله تعالىٰ: {إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب علىٰ عقبيه}، {إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك}، وما شابه ذلك
وقد اختُلِفَ فيها، فبعضهم فسرها علىٰ أنّ علم اللَّه ﷻ نوعان، فالعلم المراد هاهنا هو العلم بالأشياء بعد وقوعها وتحققها وهو الذي به يكون الثواب والعقاب والجزاء
قال ابن قُتَيبة في تأويل مشكل القرآن / ٤٠٩ - ٤١١:
( {وَلَقَد صَدَّقَ عَلَيهِم إِبليسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعوهُ إِلّا فَريقًا مِنَ المُؤمِنينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيهِم مِن سُلطانٍ إِلّا لِنَعلَمَ مَن يُؤمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّن هُوَ مِنها في شَكٍّ}
تأويله: أن إبليس لما سأل اللّٰه تبارك وتعالىٰ النظرة فأنظره، قال:
{وَلَأُضِلَّنَّهُم وَلَأُمَنِّيَنَّهُم وَلَآمُرَنَّهُم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الأَنعامِ وَلَآمُرَنَّهُم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلقَ اللَّهِ و لَأَتَّخِذَنَّ مِن عِبادِكَ نَصيبًا مَفروضًا}: وليس هو في وقت هذه المقالة مستيقناً أنّ ما قدره اللّٰه فيهم يتم، وإنّما قاله ظاناً، فلما اتبعوه وأطاعوه صدق ما ظنه عليهم فيهم
ثم قال اللّٰه: وما كان تسليطنا إيّاه إلا لنعلم من يؤمن، أي المؤمنين من الشاكرين
وعلم اللّٰه نوعان: أحدهما:
- علم ما يكون من إيمان المؤمنين، وكفر الكافرين، وذنوب العاصين، وطاعات المطيعين، قبل أنّ تكون، وهذا علمٌ لا تجب به حجةٌ ولا تقع عليه مثوبةٌ ولا عقوبةٌ
والآخر: علم هذه الأمور ظاهرةً موجودةً فيحِقُّ القولُ، ويقع بوقوعها الجزاء
فأراد اللّٰه جل وعز: ما سلطناه عليهم إلا لنعلم إيمان المؤمنين ظاهراً موجوداً، وكفر الكافرين ظاهراّ موجوداً
وكذلك قوله سبحانه: {أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَعلَمِ اللَّهُ الَّذينَ جاهَدوا مِنكُم وَيَعلَمَ الصّابِرينَ}، أي يعلم جهاده وصبره موجوداً يجب به الثواب )
وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوىٰ / ج٦ - ٤٩٦:
( وقوله: {لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا}، ونحو ذلك، فهذا هو العلم الذي يتعلق بالمعلوم بعد وجوده، وهو العلم الذي يترتب عليه المدح والذم والثواب والعقاب، والأول هو العلم بأنّه سيكون ومجرد ذلك العلم لا يترتب عليه مدح ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب فإن هذا إنما يكون بعد وجود الأفعال )
ووجه أخر ذكره البخاري في صحيحه عن مجاهد فقال:
” قَالَ مُجَاهِدٌ: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ}، عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ، إِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ فَلِيَمِيزَ اللَّهُ كَقَوْلِهِ: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ﴾ ”
وقال ابن أبي حاتم في تفسيره:
١٣٤١ - حدثنا أبي، ثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه}، قال ابن عباس: لنميز أهل اليقين من أهل الشك والريبة
٤٢٣٥ - حدثنا محمد بن العباس، قال: قال محمد بن إسحاق: {وليعلم اللَّه الذين آمنوا}، أي ليميز بين المؤمنين والمنافقين وليكرم من أكرم من أهل الإيمان بالشهادة )
وقال الطبري:
( حدثنـي المثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس: {وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِـمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىٰ عَقِبَـيْهِ }، قال ابن عبـاس: لنـميز أهل الـيقـين من أهل الشرك والريبة )
ولعل هذا التفسير محله علىٰ سبيل الاستعارة فيوضع العلم موضع التمييز إذ كان بسببٍ منه، واللَّه العالم
وقد قال بعضهم في تفسير هذه الآيات وما شابهها: إلا لنرىٰ، وهذا وجه بعيد لسببين
أنّ وضع العلم موضع الرؤية إذ كانت سبباً للعلم علىٰ سبيل الاستعارة لا يكون لسببين
فالأول أنه لا يعرف عن العرب استعارة العلم محل الرؤية إذ كانت سبب العلم، فإذا حُمِل لفظ علىٰ المجاز ولم تحمله العرب علىٰ ذلك أبدًا كان هذا باطلًا وإن كان حمله علىٰ المجاز ممكنًا بالأصل
ثم لو فرضنا صحة مثل ذلك في اللغة فوجهه بعيد وحق الكلام أن لا يُحمل علىٰ الغريب المغمور
قال الطبري:
( وقال بعضهم: إنـما قـيـل ذلك من أجل أن العرب تضع العلـم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلـم، كما قال جل ذكره:{ أية :أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ}تفسير : [الفيل: 1]. فزعم أن معنى: ألَـمْ تَرَ: ألـم تعلـم، وزعم أن معنى قوله:{ إلاَّ لِنَعْلَـمَ} بـمعنى: إلا لنرى من يتبع الرسول. وزعم أن قول القائل: رأيت وعلـمت وشهدت حروف تتعاقب فـيوضع بعضها موضع بعض، كما قال جرير بن عطية:
أنّك لـمْ تَشْهَدْ لَقِـيطاً وَحاجِبـاً وعَمْرَو بْنَ عَمْرٍو إذْ دَعا يالَ دارِمِ تفسير : بـمعنى: كأنك لـم تعلـم لقـيطاً لأن بـين هَلْك لقـيط وحاجب وزمان جرير ما لا يخفـى بعده من الـمدّة. وذلك أن الذين ذكرهم هلكوا فـي الـجاهلـية، وجرير كان بعد برهة مضت من مـجيء الإسلام. وهذا تأويـل بعيد، من أجل أن الرؤية وإن استعملت فـي موضع العلـم من أجل أنه مستـحيـل أن يرى أحد شيئاً، فلا توجب رؤيته إياه علـماً بأنه قد رآه إذا كان صحيح الفطرة، فجاز من الوجه الذي أثبته رؤية أن يضاف إلـيه إثبـاته إياه علـماً، وصحّ أن يدلّ بذكر الرؤية علـى معنى العلـم من أجل ذلك. فلـيس ذلك وإن كان فـي الرؤية لـما وصفنا بجائز فـي العلـم، فـيدلّ بذكر الـخبر عن العلـم علـى الرؤية لأن الـمرء قد يعلـم أشياء كثـيرة لـم يرها ولا يراها، ويستـحيـل أن يرى شيئاً إلا علـمه، كما قد قدمنا البـيان، مع أنه غير موجود فـي شيء من كلام العرب أن يقال: علـمت كذا بـمعنى رأيته، وإنـما يجوز توجيه معانـي ما فـي كتاب اللَّه الذي أنزله علـى مـحمد صلى اللَّه عليه وسلم من الكلام إلـى ما كان موجوداً مثله فـي كلام العرب دون ما لـم يكن موجوداً فـي كلامها، فموجود فـي كلامها «رأيت» بـمعنى «علـمت»، وغير موجود فـي كلامها «علـمت» بـمعنى «رأيت»، فـيجوز توجيه {إلاَّ لِنَعلـمَ }إلـى معنى: إلا لنرى )
ويبقىٰ لدينا قول ثالث استقر علىٰ القول به الطبري، فقال:
( فإن قال: فما معنىٰ ذلك؟
قيل له: أما معناه عندنا، فإنه: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رسولي وحزبي وأوليائي من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، فقال جل ثناؤه:"إلا لنعلم"، ومعناه: ليعلم رسولي وأوليائي. إذ كان رسول اللَّه ﷺ أولياؤه من حزبه، وكان من شأن العرب إضافة ما فعلته أتباع الرئيس إلى الرئيس، وما فعل بهم إليه، نحو قولهم:"فتح عمر بن الخطاب سواد العراق، وجبى خراجها"، وإنما فعل ذلك أصحابه، عن سبب كان منه في ذلك. وكالذي روي في نظيره عن النبي ﷺ أنه قال: يقول اللَّه جل ثناؤه: مرضت فلم يعدني عبدي، واستقرضته فلم يقرضني، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني
٢٢٠٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد، عن محمد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه ﷺ: قال اللَّه: استقرضت عبدي فلم يقرضني، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني!، يقول: وادهراه!، وأنا الدهر، أنا الدهر.
٢٢٠٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ بنحوه
فأضاف تعالىٰ ذكره الاستقراض والعيادة إلىٖ نفسه، وقد كان ذلك بغيره، إذ كان ذلك عن سببه
وقد حكي عن العرب سماعا:"أجوع في غير بطني، وأعرى في غير ظهري"، بمعنى: جوع أهله وعياله وعري ظهورهم
فكذلك قوله:"إلا لنعلم"، بمعنى: يعلم أوليائي وحزبي )
وهذا تخريج للكلام علىٰ مجاز وطريقة للعرب في الكلام
وذلك أن العرب قد تسند الفعل إلىٰ من لم يفعله إذ كان الفعل بسبب منه، ومثل هذا يُعلَم في النصوص ببينة تدل علىٰ الأمر
قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن: "وكل فعل أمرت به، فأنت الفاعل به، وإن وليته غيرك”، وهذا هو المجاز الذي تكلمنا عنه
واللَّه العالم، هذا وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد
تعليقات
إرسال تعليق