من هو الإمام عند أهل السنة؟
بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:
قال حرب الكرماني في السنة حاكيًّا الإجماع [٦٠]:
” والدِّينُ إنما هو: كتابُ اللَّهِ - ﷻ -، وأثارٌ وسننٌ، ورواياتٌ صِحاح عن الثقاتِ بالأخبارِ الصحيحةِ القوية المعروفة المشهورة
يصدق بعضها بعضًا حتىٰ ينتهي ذلك إلىٰ النبي ﷺ، أو أصحابِ النبي، أو التابعين، أو تابعي التابعين، أو من بعدهم من الأئمةِ المعروفينَ المُقتدَى بهم الذين لا يُعرَفون ببدعة، ولا يُطعَن عليهم بكذب، ولا يُرمَون بخلاف ”
هذا الإجماع يبين قاعدة أهل الحديث في الإمامة، فالإمام يُشتَرط فيه أن لا يُعرَف ببدعة وضلال، وأن لا يُطعَن عليه بكذب وما أشبهه من فسق، وأن لا يُرمَىٰ بخلاف أي أن لا يُرمَىٰ بالشذوذ، وذاك إن أكثر من الشذوذ أو كان له نهج شاذ
وهذا الشرط الأخير ذُكِرَ عن عبد الرحمن بن مهدي، قال ابن رجب في شرح علل الترمذي:
” وعنه - أي عبد الرحمن بن مهدي - قال: لا يكون إمامًا في الحديث من يحدث بكل ما سمع، ولا يكون إمامًا في العلم من يحدث عن كل أحد، ولا يكون إمامًا في العلم من يحدث بالشاذ من العلم ”
واعلم رحمك اللَّه أن الإمام لفظ شرعي وهو من يؤتم به ويُهتَدى كما قال تعالىٰ: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا}
فجعل تعالىٰ إبراهيم وولديه أئمة يُهتَدىٰ بهم إذ كانوا يهدون بأمره إلىٰ الملة القويمة التي لا عوج فيها ولا شرك
وقال تعالىٰ: (واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب)
وقال تعالىٰ: (واتبعوا ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين)
وقال ابن قُتيبة رحمه اللَّه في تأويل مشكل القراءن:
( الإمام: أصله ما ائتممت به، قال اللَّه تعالىٰ لإبراهيم: {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمامًا}، أي: يؤتم بك، ويقتدى بسنّتك )
وعلىٰ هذا فإن قيل: أفيلزم الأئتمام بالأئمة في كل شيء؟
قيل: لا، ولكن هل يلزم أن لا نأتم بهم في كل شيء أيضًا؟
والجواب علىٰ ذلك نحو جوابنا علىٰ السؤال الأول
فالإمام هو من يُهتَدىٰ به إذ كان يهدي عن أمر اللَّه إلىٰ الملة المستقيمة والسنة الصحيحة بالدعوة لها والبيان عنها والاتباع لها
فمن لم يهتدي بالأئمة في ذلك فلم يكن علىٰ الملة القويمة والسنة الصحيحة بأن عُرِفَ ببدعةٍ أو خِلافٍ أو عِوجٍ عن اتباع الأمر والنهي بالكذب أو غيره لم يكن إمامًا شرعيًّا
وذلك أن الإمام لا يكون إمامًا يهدي إلىٰ ملة قويمة إلا وهو بالأئمة من قبله مؤتمر وبهم مهتدٍ في ذلك
قال أبو خيثمة زهير بن حرب في كتاب العلم:
” ٢٩ - نَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾، قَالَ: نَأْتَمُّ بِهِمْ وَنَقْتَدِي بِهِمْ حَتَّىٰ يَقْتَدِيَ بِنَا مَنْ بَعْدَنَا ”
هذا سند صحيح
فهذا كذاك غير أن من الأمور ما لا يُخرِج المرء عن كونه إمامًا مهتديًا بالأئمة يُهتَدى به بذلك في الإسلام الصحيح كالاجتهاد فيما وسع اللَّه به ذلك والزلل والخطأ
فقد يجتهد الإمام الشرعي في أمر يسوغ به الاجتهاد ويتسع فيغلط كما اجتهد نبي اللَّه داود ﷺ فأخطأ وفهَّم اللَّه ابنه سليمان ﷺ فأصاب
وقد يغلط الإمام ويخطئ أو يَزِل ويُبعِد فلا يكون كمن كفر ولا كمن ابتدع أو فسق وفجر
وأي إمام يسلم من هذا أبدًا؟
وقد قال تعالىٰ: {وجعلناهم أئمة يدعون إلىٰ النار}
فكل من دعا إلىٰ النار بالدعاء لأسبابها وموجباتها من شرك أو بدع وضلال مبين أو فسق وفجور عظيم هو إمام يُقتَدى به في العصيان والكفران داعية إلىٰ النار
ومن أقبح الغلط جعل من حشا التجهم وهو شرك وكفر في كتبه ومصنفاته فدعا إليه بالاحتجاج له أو بالتزيين والتحسين له أو بالتهوين والتبرير له حتىٰ جعله مذهبًا وسبيلًا مقبولًا
هذا من أقبح الغلط وأعظمه جعله إمامًا شرعيًّا علىٰ الإطلاق باللفظ
وقد قال تعالىٰ عمن ظنوا أنه لا يعلم كثيرًا مما يعملون: (وَذلِكُم ظَنُّكُمُ الَّذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُم أَرداكُم فَأَصبَحتُم مِنَ الخاسِرينَ)
فكيف بمن ظن في صفاته وهو القدوس أنها علىٰ غير النزاهة والطهارة والكمال، فأوجب بقلة استحياء منه تنزيه وتجريده عنها؟
فهذا أولىٰ وأحرىٰ قد ظن باللَّه ظنًّا يوجب له الإرداء في النار، ودعوته لذلك أعظِم بها دعوةً فإنها دعوة لما يجر إلىٰ إرداء اللَّه حتىٰ يكون المرء من الخاسرين
فلا جرم أن صاحب هذه الدعوة إمام يُقتَدى به في ظن السوء ذاك داعية إلىٰ النار والإرداء فيها
هذا وتأميم أهل البدع من الجهمية وغيرهم لا يجوز، ولا توقيرهم أو مدحهم بشيء دون ذلك
فقد أجمع أهل السنة علىٰ جواز غيبة أهل البدع بذكرهم بأوصافهم وأسمائهم بما يكرهون ولا يرضون نصحًا وتحذيرًا للناس ليعرفوا بدعة المبتدع وضلالته فيحذروا
وذاك أن الغيبة قد تجوز لمصلحة خاصة لاستشارة في نكاح أو غيره فكيف إذا كانت المصلحة عامة؟
قال العقيلي في الضعفاء:
( حدثنا محمد بن إسماعيل قال: حدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا أبو صالح الضراء قال: حكيت ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئًا من أمر الفتن، فقال: ذاك يشبه أستاذه يعني الحسن بن حيي
قال: قلت ليوسف: أما تخاف أن تكون هذه غيبة؟، فقال: لم يا أحمق، أنا خير لهؤلاء من أمهاتهم وآبائهم، أنا أنهي الناس أن يعملوا بما أحدثوا فتبعتهم أوزارهم، ومن أطراهم كان أضر عليهم )
فتوقير المبتدعة وإطرائهم يعاكس المعنىٰ الذي أشرت إليه
وذاك أن الناس بعوامهم وضعيفهم وصغيرهم وجديدهم علىٰ العلم يلتفتون إلىٰ ما يقال في المبتدع فيحسن ظنهم فيه فلا يُؤمَن مع ذلك اتباع المبتدع علىٰ بدعته أو مخالفته
وأشار إلىٰ هذا المعنىٰ الشاطبي في الاعتصام
وإن كان المبتدع رأسا أو عالمًا متقدمًا مصنفًا فذكره بما لا يحب تحذيرًا ونصحًا أوكد وتوقيره أعظم وأشد
وذاك أنه ليس لكل أحد من العلم ما يكفي ويقي، فإن قرأ أحد العوام أو الجهال أو الصغار كتابًا لفلان الذي يُطرَىٰ ويُوقَر فلا يُؤمَن عليه دقيق المقالات وخفي المخالفات عنده لجهله وحداثته بالعلم
وإلىٰ هذا المعنىٰ أشار ابن بطة في الإبانة الصغرىٰ، فقال رحمه اللَّه
” ولهذه المقالات والمذاهب رؤساء من أهل الضلال ومتقدمون في الكفر وسوء المقال
يقولون علىٰ اللَّه ما لا يعلمون، ويعيبون أهل الحق فيما يأتون، ويتهمون الثقات في النقل، ولا يتهمون آراءهم في التأويل
قد عقدوا ألوية البدع، وأقاموا سوق الفتنة، وفتحوا باب البلية، يفترون علىٰ اللَّه البهتان، ويتقولون في كتابه بالكذب والعدوان
إخوان الشياطين، وأعداء المؤمنين، وكهف الباغين، وملجأ الحاسدين
هم شعوب وقبائل وصنوف وطوائف، أنا أذكر طرفًا من أسمائهم وشيئًا من صفاتهم لأن لهم كتبًا قد انتشرت ومقالات قد ظهرت لا يعرفها الغِر من الناس، ولا النشء من الأحداث تخفىٰ معانيها على أكثر من يقرأها
ولعل الحدث يقع إليه الكتاب لرجل من أهل هذه المقالات قد ابتدأ الكتاب بحمد اللَّه والثناء عليه، والإطناب بالصلاة علىٰ النبي - ﷺ - ثم أتبع ذلك بدقيق كفره، وخفي اختراعه وشره
ويظن الحدث الذي لا علم له، والأعجمي والغمر من الناس أن الواضع لذلك الكتاب عالم من العلماء أو فقيه من الفقهاء، ولعله يعتقد في هذه الأمة ما يراه فيها عبدة الأوثان، ومن بارز اللَّه ووالى الشيطان. ”
وقال ابن بطة في الإبانة الصُغرىٰ:
( وقال الفضيل: من وقرَّ صاحب بدعةٍ فقد أعان علىٰ هدم الإسلام )
ولا يخفىٰ أن أعظم التوقير هو التأميم، فكلام الفضيل وغيره من السلف في هذا الشأن يتضمن نهيًا بينًا عن توقير أهل البدع بالتأميم إذ في ذلك التغرير والإعانة علىٰ هدم الدين
والمبتدع ليس بأهل للإمامة فلا يُوقَر بها وإن حُذِر منه ببدعته مع ذلك
وأنبه تنبيهًا أخيرًا، وهو أن السنة كالإسلام وصف ثبوتي فلا يجوز إثباته لامرؤ لم تثبت له السنة بخصالها وأوصافها فقط لأنه وافقها في بعض الأبواب
ولهذا يقول الإمام البربهاري كما في شرح السنة / ١٢٨:
( ولا يحل لرجل أن يقول: فلان صاحب سُنّة حتّىٰ يعلم منه أنّه قد اجتمعت فيه خصال السنة، لا يقال له: صاحب سنة حتى تجتمع فيه السنة كلها )
وقال ابن بطة رحمه اللَّه في الإبانة الصغرىٰ [١١٧]:
” ونحن الآن ذاكرون شرح السنّة ووصفها وما هي في نفسها، وما الذي إذا تمسك به العبد ودان اللَّه به سُمِّي بها، واستحق الدخول في جملة أهلها
وما إنْ خالفه أو شيئًا منه دخل في جملة ما عيناه، وذكرناه، وحذرنا منه من أهل البدع والزيغ ممّا أجمع علىٰ شرحنا له أهل الإسلام وسائر الأمّة منذ بعث اللَّه نبيه ﷺ إلىٰ وقتنا هذا ”
فذكر أن المخالفة في شيء من السنة تُدخِل المرء مع أهل البدع والزيع في الخروج عن السنة
هذا وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد
تعليقات
إرسال تعليق