قاعدة في الألفاظ المحققة لمعنى النص...

بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:

فهذه قاعدة عامة في الألفاظ الخارجة عن ألفاظ النصوص فيما يتعلق بباب الصفات الإلهية

وذلك أنّنا نجد من السلف ألفاظاً كنحو قولهم: بائن، بحد، كلام اللَّه غير مخلوق، إلخ، مما هي خارجة عن ألفاظ النصوص فما داعي ذلك؟

والإجابة أن مثل هذا من عميق فقه السلف، فلمل ظهر أهل التعطيل واتخذوا سبلهم في نفي الصفات الإلهية إما بتحريفها وإما بتفويضها والتوقف فيها كان في هذا أمرين:

الأول هو تعطيل هؤلاء دلالة النص علىٰ الصفة

والثاني هو تلبيس المعطلة علىٰ الناس أنهم موافقين للمسلمين ولأئمة الإسلام فيما يقولونه

فقد يقول الجهمي: القرآن كلام اللَّه، وهو ظاهراً يوافق النص ولكنه في الحقيقة يطلق هذا اللفظ بمعنى لا تعرفه العرب وهو أن كلامه بمعنىٰ أنّه بائن عنه مخلوق في خلق، أو يريد مذهب الواقفة فهو فقط يطلق كلام اللَّه ولا يقول غير مخلوق

وقد يقول: اللَّه فوق العرش وعلا علىٰ العرش، وهو حقيقةً يريد علو المكانة، أو يريد أنّه فوق العرش لأنه بكل مكان كما يقول الحلولية الجهمية

فقد ذكر الدارمي في نقضه عن المعارض الجهمي أنه قال: ( لِأَنَّهُ عَلَىٰ العَرْشِ، وبِكُلِّ مَكَانٍ، ولا يُوصَفُ بِأَيْنَ )

ولهذا فالقوم قد يقولون بإثبات الفوقية ويقصدون أنه فوق لأنه أصلًا بكل مكان وجهة بما في ذلك جهة الفوقية

فلهذا الذي ذكرت كان في إطلاق الألفاظ المحققة لمعنىٰ النص فائدتان:

أولها إثبات الصفة التي عطلها الجهمي بالتوقف والتفويض أو بالتحريف والتبديل

وثانيها إزالة شبهة موافقة الجهمية والرد عليهم

فإذا قيل: كلام اللَّه غير مخلوق، ما كان في القول اشتباه مع قول آخر لأهل التعطيل، لأنك إن قلت: كلام اللَّه ووقفت، فقد يشتبه الأمر إذ الجهمي يقول بهذا أيضاً، فلا يتميز حالك عن حاله ولا تنتفي شبهة موافقته، ثم إنك بهذا حققت معنىٰ النص بما يدفع تحريف أو تفويض الجهمي

وبهذا تكون أيضّا رددت علىٰ الجهمي الذي يقول كلام اللَّه ثم يفسر الكلام بمعنى كفري 

ولولا ظهور داع ذلك وهو ما ذكرنا، لم يكن الناس بحاجة لمثل هذا، فقبل ظهور أهل التعطيل لو قيل: كلام اللَّه عز وجل، لكان هذا كافياً إذ لم يظهر أناس يفسرون هذا اللفظ وغيره مما ورد في النصوص من ألفاظ الصفات بمعانٍ باطلة، ولم يظهر أناس يطلقون هذه الألفاظ بلا تحقيق لمعانيها فيتوقفون فيها، فيحصل المحذورين اللذان ذُكِرَا

وإلىٰ هذا المعنىٰ أشار الإمام أحمد في رده علىٰ الواقفة - وهم الذين يقفون في القرآن فيقولون كلام اللَّه ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق -:

روىٰ الخلّال في السنة والآجري في الشريعة عن أبي داود السجستاني واللفظ للخلال فقال:

« ١٧٨٣ - وأخبرنا سليمان بن الأشعث، قال: سمعت أحمد سُئِلَ: لهم رخصة أنّ يقول الرجل: كلام اللَّه ويسكت؟

قال: ولم يسكت؟!، قال: لولا ما وقع الناس فيه كان يسعه السكوت، ولكن حيث تكلموا فيما تكلموا، لأي شيءٍ لا يتكلمون؟ » 

فالإمام أحمد بين أنّه لولا ما وقع الناس فيه لكان يسع المرء السكوت، فلو لم يحدث الجهمي لألفاظ النصوص معانٍ باطلة أو يفوضها ويقف فيها لكان في مجرد ذكر لفظ النص كفاية إذ لم يشتبه ذلك بقول أهل التعطيل فيكون فيه تحقيق للصفة 

قال الآجري في الشريعة:

( معنى قول أحمد بن حنبل في هذا المعنى يقول: لم يختلف أهل الإيمان أن القرآن كلام اللَّه تعالىٰ، فلما جاء جهم بن صفوان فأحدث الكفر بقوله: (القرآن مخلوق)، لم يسع العلماء إلا الرد عليه بأن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق بلا شك، ولا توقف فيه، فمن لم يقل غير مخلوق سمي واقفياً شاكاً في دينه )

فلم يسع العلماء إلا الرد علىٰ الجهم بلفظ غير مخلوق لأنهم لو قالوا القرآن كلام اللَّه فهذا لا ينكره الجهم أصلًا فهو لا ينكر إطلاق القول بأن القرآن كلام اللَّه وإنما يفسر كلام اللَّه بمعنى كفري 

وآحيانًا يطلق الجهم بن صفوان ألفاظ النصوص دون تحقيق معناها وإنما يتوقف فيها ويفوضها، فهنا لا يسع العلماء الرد عليه بلفظ النص فقط إذ هو أساسًا لا ينكر إطلاقه وإنما يتوقف فيه

قال البخاري في خلق أفعال العباد: ( وقال عبد العزيز بن سلمة: إن كلام جهم صنعة بلا معنى، وبناء بلا أساس )

قوله: ( صنعة بلا معنى )، هذا هو التفويض عند الجهم بن صفوان

ولهذا الذي ذكرت كله كانت الحاجة لتلك الألفاظ

قال الدارمي في نقضه:

( ويحك إنما كره السلف الخوض فيه: مخافة أن يتأول أهل البدع والضلال وأغمار الجهال ما تأولت فيه أنت وإمامك المريسي

فحين تأولتم فيه خلاف ما أراد اللَّه، وعطلتم صفات اللَّه: وجب علىٰ كل مسلم عنده بيان أن ينقض عليكم دعواكم فيه

ولم يكره السلف الخوض في القرآن؛ جهالة بأن كلام الخالق غير مخلوق، ولا جهالة أنه صفة من صفاته ) 

ولهذا الكلام كله كان بعضهم يمتحن المعطلة بتلك الألفاظ المحققة لمعنىٰ النص فإن أبىٰ أن يقول بها عُلُمَ أنه يتحايل ويدلس وأنه لا يحقق معنىٰ النص

ذكر ذلك الذهبي رحمه اللَّه في العلو عن هشام بن عبيد اللَّه فقال:

( قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن بن يزيد السلمي سمعت أبي يقول سمعت هشام بن عبيد اللَّه الرازي وحبس رجلًا في التجهم 

فجيء به إليه ليمتحنه، فقال له: أتشهد أن اللَّه علىٰ عرشه بائن من خلقه، فقال: لا أدري ما بائن من خلقه، فقال: ردوه، فإنه لم يتب بعد )

وكون باب الصفات بابًا توقيفيًّا هذا لا يناقض ما ذكرنا، فليس معنىٰ هذا أن الإخبار والإعلام توقيفي، وتلك الألفاظ إنما هي من باب الإخبار والإعلام

وليس في تلك الألفاظ إثبات لصفات جديدة بل معناها في النصوص موجود، وغرضها تحقيق النصوص 

ولهذا أجمع أهل السنة علىٰ أن القرآن غير مخلوق، ولفظة غير مخلوق لم ترد بكتاب ولا سنة بعينها، وإنما هي لفظة تحقق النص وليس أنها تجاوزه

قال ابن القيم رحمه اللَّه:

( ما يُطلَقُ عليه في بابِ الأسماءِ والصِّفاتِ توقيفيٌّ، وما يُطلَقُ عليه من الإخبارِ لا يجِبُ أن يكونَ توقيفيًّا؛ كالقديمِ، والشَّيءِ، والموجودِ، والقائِمِ بنَفْسِه )

والإخبار كقولنا عن الرب تبارك وتعالىٰ: إنه شيء

قال تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه}، أي إلا نفسه المتصفة بالوجه ذي الجلال والإكرام

وكذلك قولنا: بائن عن خلقه، وكلام اللَّه غير مخلوق، وما شابه إنما هو إخبار بمعنىٰ النص

فملخص الأمر أن الصفات توقيفية كاليد والوجه والنزول وغير ذلك، والإخبار ليس توقيفيًّا

ويظن بعضهم أن الذي أطلق تلك الألفاظ وما أشبهها إنما يثبت صفة جديدة ويلزمومه بأن لا يتعدىٰ النص، وهذا باطل 

فليس في تلك الألفاظ إثبات صفات لم ترد فلفظ التحرك مثلًا معناه هو معنىٰ الفعل أي الصفات الاختيارية التي هي كالنزول والمجيء والبسط والقبض، فهو سبحانه يتحرك فيجيء وينزل ويفعل 

وليس المراد من التحرك إثبات صفة جديدة مستقلة عن باقي الصفات الاختيارية

وداعي ذكر التحرك هو تحقيق الصفات الفعلية وأنه يفعل فعلًا قائمًا بنفسه سبحانه خلافًا لتفوبض الجهمي أو تأويله لفعله سبحانه الذي هو كالنزول والمجيء وغير ذلك

وقد قال الدارمي في نقضه: ( لِأَنَّ الحَيَّ القَيُّومَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَتَحَرَّكُ إِذَا شَاءَ، ويَهْبِطُ ويَرْتَفِعُ إِذا شَاءَ، ويَقْبِضُ وَيَبْسُطُ، وَيَقُومُ وَيَجْلِسُ إِذَا شَاءَ: لِأَنَّ أَمَارَةُ مَا بَيْنَ الحَيِّ وَالمَيِّتِ التَّحَرُّكَ 

كلُّ حَيٍّ مُتَحَرِّكٌ لَا مَحَالَةَ، وَكُلُّ مَيِّتٍ غَيْرُ مُتَحَرِّكٍ لَا مَحَالَةَ )

وما ذكره الدارمي هاهنا مشابه لما ذكره البخاري عن نعيم بن حماد 

قال البخاري في خلق أفعال العباد: ( وَلَقَدْ بَيَّنَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ أَنَّ كَلَامَ الرَّبِّ لَيْسَ بِخَلْقٍ، وَأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَعْرِفُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ إِلَّا بِالْفِعْلِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ فِعْلٌ فَهُوَ حَيٌّ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلٌ فَهُوَ مَيِّتٌ )

فقوله: ( لا تعرف الحي من الميت إلا بالفعل )، كقول الدارمي: ( أمارة ما بين الميت والحي التحرك )

وقوله: ( فمن كان له فعل فهو حي ومن لم يكن له فعل فهو ميت )، كقول الدارمي: ( كل حي متحرك لا محالة، وكل ميت غير متحرك لا محالة )

وإنما قصد الدارمي بالتحرك الفعل فكلامه مُفسَّر بكلام نعيم وهو علىٰ نفس نسقه، وكأنه رحمه اللَّه أخذ قوله عن نعيم بن حماد فهو شيخه، واللَّه أعلم

وكذلك لفظة الحد معناها هو غاية الشيء ومنتهاه الذي به يتميز عن غيره، فالمعنىٰ هاهنا هو معنىٰ البينونية الثابت في نصوص العلو

فاللَّه له حد أي أن له غاية ونهاية تميزه عن غيره فهو بائن من المخلوقات، وهو فوق العرش سبحانه بحد لا كما يقول الجهمية أنه فوق العرش وبكل مكان

فالحد إخبار معناه في النص يُرَاد به تحقيق نصوص العلو

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رده علىٰ الخطابي الأشعري بشأن لفظة الحد:

” إنما يتوجه لو قالوا: إن له صفة هي الحد كما توهمه هذا الراد عليهم، وهذا لم يقله أحد ولا يقوله عاقل، فإن هذا الكلام لا حقيقة له إذ ليس في الصفات التي يوصف بها شيء من الموصوفات كما يوصف باليد والعلم صفة معينة يقال لها:

الحد، وإنما الحد ما يتميز به الشيء عن غيره من صفته وقدره كما هو المعروف من لفظ الحد في الموجودات “

قال الدارمي في نقضه:

( وَادَّعَى المُعَارِضُ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ لله حَدٌّ وَلَا غَايَةٌ وَلَا نِهَايَةٌ.

 وَهَذَا هُوَ الأَصْلُ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ جَهْمٌ جَمِيعَ ضَلَالَاتِهِ، وَاشْتَقَّ مِنْهَا أُغْلُوطَاتِهِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ سَبَقَ جَهْمًا إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ العَالَمِينَ.

فَقَال لَهُ قَائِلٌ مِمَّنْ يُحَاوِرُهُ: قَدْ عَلِمْتُ مُرَادَكَ بِهَا أَيُّهَا الأعجمي، وتعني أَن اللَّه لَا شَيْءٌ: لأنَّ الخَلْقَ كُلَّهُم عَلِمُوا أَنَّه لَيْسَ شَيءٌ، يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّيْءِ إِلَّا وَلَهُ حَدٌّ وَغَايَةٌ وَصِفَةٌ، وَأَنَّ لَا شَيْءٌ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَلَا غَايَةٌ وَلَا صِفَةٌ

فَالشَّيْءُ أَبَدًا مَوْصُوفٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَا شَيْءٌ يُوصَفُ بِلَا حَدٍّ وَلَا غَايَةٍ، وَقَوْلُكَ: لَا حَدَّ لَهُ يَعْنِي: أَنَّهُ لَا شَيْءٌ.

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَاللَّه تَعَالَىٰ لَهُ حَدٌّ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُه، وَلَا يجوزُ لأَحَدٍ أَن يتَوَهَّم لحدِّه غايةً فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنْ يُؤْمِنُ بِالحَدِّ ويَكِلُ عِلْمَ ذَلِكَ إِلَىٰ اللَّهِ، ولِمَكَانِهِ أَيْضًا حَدٌّ، وَهُوَ عَلَىٰ عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، فَهَذَانِ حَدَّانِ اثْنَانِ.

وَسُئِلَ ابْنُ المُبَارَكِ: بِمَ نَعْرِفُ رَبَّنَا؟، قَالَ: بِأَنَّهُ عَلَىٰ العَرْشِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، قِيلَ: بِحَدٍّ؟، قَالَ: بِحَدّ

(٢٨) حدّثنَاهُ الحَسَنُ بْنُ الصَّباح البَزَّارُ، عَنْ عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ 

فَمَنِ ادَّعَىٰ أَنَّهُ لَيْسَ للَّهِ حَدٌّ فَقَدْ رَدَّ القُرْآنَ، وَادَّعَىٰ أَنَّهُ لَا شَيْء لِأَنَّ اللَّه حَدَّ مَكَانَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَىٰ الْعَرْشِ اسْتَوَى}

{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}، و: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا أَشْبَهَهُ شَوَاهِدُ وَدَلَائِلُ علىٰ الحَدِّ. 

وَمَنْ لَا يَعْتَرِفُ بِهِ: فَقَدْ كَفَرَ بِتَنْزِيلِ اللَّه، وَجَحَدَ آيَاتِ اللَّه

وَقَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: إِنَّ الله فَوْقَ عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، وَقَالَ لِلْأَمَةِ السَّوْدَاءِ: أَيْنَ اللَّه؟، قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ فَقَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ

فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّه ﷺ: إنها مُؤْمِنَةٌ، دَلِيلٌ عَلَىٰ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تُؤْمِنْ بِأَنَّ اللَّه فِي السَّمَاءِ، لم تَكُنْ مُؤمِنَة، وَأَنَّهُ لا يَجُوزُ فِي الرَّقَبَة إِلَّا مَنْ يُحِدُّ اللَّهَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ

وَقَدِ اتَّفَقَتِ الكَلِمَةُ مِنَ المُسْلِمِينَ وَالكَافِرِينَ أَنَّ اللَّه فِي السَّمَاءِ، وَحَدُّوهُ بِذَلِكَ إِلَّا المَرِيسِيَّ الضَّالَّ وَأَصْحَابَهُ حَتَّىٰ الصِّبْيَانُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ قَدْ عَرَفُوهُ بِذَلِكَ، إِذَا حَزَبَ الصَّبِيَّ شَيْءٌ يرفع يَدَيْهِ إِلَىٰ رَبِّهِ يَدْعُوهُ فِي السَّمَاءِ دُونَ مَا سِوَاهَا، فَكُلُّ أَحَدٍ بِاللَّه وَبِمَكَانِهِ أَعْلَمُ مِنَ الجَهْمِيَّةِ”

الإسناد صحيح لابن المبارك رحمه اللَّه، وقد نقل حرب الكرماني عن إسحاق بن راهويه إثبات الحد أيضًا

وقد قرن الدارمي الغاية والنهاية بالحد فذلك كله بمعنىً واحد

وبيَّنَ أن الشيء الذي لا حد له ليس بشيء أصلًا، وهذا لا يشتبه إذ الشيء إنما كان شيئًا لأن له حدًّا وغاية يتميز بها عن غيره من الأشياء

ولهذا قال الشيخ ابن تيمية رحمه اللَّه: ( وإنما الحد ما يتميز به الشيء عن غيره من صفته وقدره كما هو المعروف من لفظ الحد في الموجودات )

وعلىٰ كلام الدارمي نقول: للَّه سبحانه حد وغاية لا يعلم تلك الغاية أحد غيره، فليس لأحد أن يتوهم غاية معينةً في نفسه له ولا أن يتوهم لغايته منتهىً في نفسه

بل يؤمن بغايته ويكل العلم ذلك له سبحانه، فحقيقة الحد وكيفيته مجهولة

وعلىٰ هذا الكلام نقل حرب الكرماني الإجماع في السنة قائلًا: ( ٥٦ - وله حد، اللَّه أعلم بحده )

وعلىٰ هذا فالحد الذي يعلمه الخلق منفي عن اللَّه تعالىٰ، وهذا هو مراد الإمام أحمد بنفي الحد فهو قصد الحد الذي يعلمه الخلق

فقد جاء في السنة للخلال: ( نعبد اللَّه بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف بها نفسه

وهو علىٰ العرش بلا حد كما قال، استوىٰ علىٰ العرش كيف شاء، المشيئة إليه، والاستطاعة له، {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}

لا يبلغ وصفه الواصفون، وهو كما وصف نفسه )

قال أبو العباس ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية بعد أن ذكر تلك الرواية عنه وغيرها:

( فهذا الكلام من الإمام أبي عبد اللَّه أحمد رحمه اللَّه يبين أنه نفىٰ أن العباد يحدون اللَّه تعالىٰ أو صفاته بحد أو يُقدُرون ذلك بقدر أو أن يبلغوا إلىٰ أن يصفوا ذلك وذلك لا ينافي ما تقدم من إثبات أنه في نفسه له حد يعلمه هو لا يعلمه غيره أو أنه هو يصف نفسه وهكذا كلام سائر أئمة السلف يثبتون الحقائق وينفون علم العباد بكنهها ) 

وقد نقل حرب الكرماني في السنة إثبات الحد عن أحمد وأئمة الإسلام، فالحد المثبت هاهنا هو الذي لا يعلم حقيقته إلا اللَّه تعالىٰ

ويُلاحَظ أن الدارمي رضي اللَّه عنه استدل علىٰ ثبوت الحد بذكر مكانه وعلوه جل جلاله إذ في ذلك الدلالة البينة علىٰ إثبات الحد

وقال بعد أن سرد الآيات في العلو: ( فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا أَشْبَهَهُ شَوَاهِدُ وَدَلَائِلُ علىٰ الحَدِّ )

فعلوه تعالىٰ يلزم منه الحد والغاية التي يتميز بها عن غيره وأنه لا ليس بلا حد فيكون منتشرًا بكل مكان كما يقول الجهمية الحلولية عياذًا باللَّه من كفرهم 

وقال الدارمي أيضًا:

( حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَن ابْن شهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ كَعْبًا قَالَ لِعُمَرَ - رضي اللًَه عنه -: وَيْلٌ لِسُلْطَانِ الأَرْضِ مِنْ سُلْطَانِ السَّمَاءِ

قالَ عُمَرُ: إِلَّا مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ، قَالَ كَعْبٌ: إِلَّا مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ، فَكَبَّرَ عُمَرُ وَخَرَّ سَاجِدًا 

فَفِي هَذَا بَيَانٌ بَيِّنٌ لِلْحَدِّ، وَأَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ دُونَ الأَرْض؛ لِأَنه هُنَاكَ عَلَىٰ العَرْشِ دُونَ مَا سواهُ من الأَمْكِنَة )

فبيان الحد من صفة العلو بين كما قال الدارمي، ولهذا جعل الدارمي رد الحد وما دل عليه من البينونية ردًّا للقرآن إذ كان ذلك لازمًا للعلو بينًا لا لبس فيه بوجه ولا اشتباه فيه بحال فنفيه كفر ظاهر 

واللازم الظاهر البين لنفي الحد والغاية هو تعطيل صفة العلو، ولهذا كان نفيه نفيًا للعلو عند الدارمي، وكذا إثباته وتحقيقه تحقيق وإثبات للعلو عنده

هذا ولفظا التحرك والحد لم يردا نصًّا ولكنهما إخبار بمعنى النصوص لتحقيق الصفات فلا بأس إن شاء اللَّه تبارك وتعالىٰ

وهذا يقال في كل لفظ ذكره السلف وهو من باب الإخبار 

وداعي تلك الألفاظ قد بينته فلا يصلح أن يأتي بعضهم ويزعم أن تلك الألفاظ لا حاجة إليها ويغني عنها غيرها، فهذا غلط

ومثل ذلك الإخبار بالحد أو التحرك أو غير ذلك موجود في كلام الأوائل فلا يُنكَر

 ومن بابنا ما ذكره ابن بطة في الإبانة الصغرىٰ حيث قال: ( ثم الإيمان بصفات اللَّه بأن اللَّه حي، ناطق، سميع بصير )

فقوله: ناطق، هذا إخبار معناه في النص يُرَاد به تحقيق صفة الكلام القائمة بالنفس بصوت مسموع

والعجب لأهل الكلام المعاصرين هؤلاء ينكر بعضهم علىٰ الدارمي وحرب الكرماني وغيرهم هذه الألفاظ التي لم ترد بعينها في النصوص وهم في المقابل ينفون ألفاظًا لم ترد بالنصوص!

فإن قيل: ولكن معنىٰ هذه الألفاظ التي نفيناها منفي في النص: {ليس كمثله شيء}، فلذلك نفيناها إخبارًا لا تجاوزًا للنص

قيل: ومعنىٰ تلك الألفاظ التي أثبتها أولئك ثابت في النصوص، فلذلك أثبتوها إخبارًا لا تجاوزًا للنص

وقد حصل للإمام أحمد فيما يتعلق بهذا الباب ما ذكره الخلّال في السنة فقال:

( ٨٣٥ - وأخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن جعفر أن الحارث حدثهم قال: سمعت أبا عبد اللَّه يقول: القرآن كلام اللَّه ليس بمخلوق، ومن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو كافر

قلت: يا أبا عبد اللَّه أي شيء قلت لأبي العباس

فقال: لا أقول غير مخلوق إلا أن يكون في كتاب اللَّه

فقلت له: فتقول: إن وجه اللَّه ليس بمخلوق؟

فقال: لا ، إلا أن يكون في كتاب نصًّا

فارتعد أبو عبد اللَّه وقال: استغفر اللَّه، سبحان اللَّه!، هذا الكفر باللَّه، أحد يشك أن وجه اللَّه ليس مخلوق؟! )

ولعمري فشبهة هذا الواقفي - الذي لا يقول عن القرآن أنه غير مخلوق - مشابهة لشبهة بعض المنتسبين للسلفية الذين يقولون:

هذا لم يرد نصًّا، يعني إلّا أن يرد نصًّا كما قال الواقفي!

إلا أن هناك فرقّا بين من يثبت معنىٰ اللفظ ولكنه لا يثبت اللفظ لأنه لم يرد نصًّا، وهذا هو حال بعض المنتسبين للسلفية في بعض تلك الألفاظ التي لم ترد بعينها

وبين من لا يثبت اللفظ بمعناه لأنه لم يرد نصًّا، وهذا هو حال الواقفة فهم لا يقولون عن القرآن أنه غير مخلوق لأن ذلك لم يرد نصًّا كما يقولون

فالصنف الأول حالهم أهون بكثير

وإلزام الإمام أحمد لذاك الرجل يلزم كل من ينكر تلك الألفاظ لفظًا ومعنىً بدعوىٰ عدم ورودها نصًّا

فإذا قال الواقفي: لا أقول غير مخلوق عن القرآن إلا أن يرد نصّّا

 يقال له: فهل أنت لا تقول عن وجه اللَّه تعالىٰ وعن نفسه غير مخلوق؟!

هذا ومعنىٰ اللفظ إن كان بالنص فلا يجوز أن يتوقف فيه المرء وإن توقف في اللفظة 

وعلىٰ ذاك الكلام فإنكار لفظة الحركة اتباعاً لقول ابن رجب في فضل علم السلف علىٰ الخلف: ( ومنهم من أثبت للًَه صفات لم يأت بها الكتاب والسُّنَّة كالحركة وغير ذلك مما هي عنده لازم الصفات الثابتة )

لا يصح، وليس في تلك اللفظة معارضة لأصول الإمام أحمد 

وليس المراد بالحركة صفةً مستقلةً جديدةً، وإنما يراد بها إثبات الأفعال الاختيارية وأنها قائمة بالنفس الكريمة

فالحركة هي معنى المجيء والنزول وغير ذلك، والإخبار عنه بالحركة يحسم تأويل المعطل بأن النزول والمجيء هو نزول أمره ومجيءه إلخ

فهذا داعي هذا الإخبار

ومعنىٰ التحرك لا شك أن كل أهل السنة يثبتونه حتىٰ ابن رجب رحمه اللَّه، لأن معناها ما قد بينت

ولكن قد تلتبس اللفظة في حق بعضهم مع إثباتهم لمعناها الصحيح فيظن الظان منهم أن المراد من اللفظة صفة جديدة أو معنى لم يرد في النص

فهنا قد يتوقف في اللفظة ومعناها بعضهم، فهذا توقف لضعف رأي أي لفهم مغلوط لا أنه توقف لنفي المعنىٰ الصحيح للفظ الذي هو في النص 

وهذا حاله هينة بخلاف الذي يتوقف في اللفظة لبدعة أي لاعتقاده التوقف فيها بمعناها الذي هو في النص كحال الواقفة 

واللَّه المستعان، وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخلاف في صفة الهرولة...

دلالة الحس علىٰ الخالق وصفاته وأفعاله...

هل تثبت صفة البشبشة؟