هل صالحو بني آدم خير من الملائكة؟...

بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:

فقد عد بعضهم هذه المسألة من فضول الكلام والعلم

وليس كذلك إذ هي كما ذكر أبو العباس ابن تيمية مسألة سلفية أثرية  

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوىٰ / ٣٥٧ - ٤:

( وكنت أحسب أن القول فيها محدث حتىٰ رأيتها أثرية سلفية صحابية )

وقد قال جل وعلا: {الذين يؤمنون بالغيب}، والألف واللام لاستغراق الجنس أي يؤمنون بكل غيب

فجعل اللَّه جل وعلا الإيمان بالغيب فضيلة مستقلة

والإيمان وهو التصديق علىٰ التعريف المشهور، وأصل التصديق بالقلب، وهو يتفاضل فتصديق المُصدَّق علىٰ ما هو عليه قد يكون إجمالًا أو تفصيلًا

فليس من صدق بالملائكة إجمالًا دون أن يصدق بمنازلهم وصفاتهم وأسمائهم وغير ذلك بأكمل ممن صدق تفصيلًا

وتلك المسألة يُبنَىٰ عليها إيمان المرء بمنزلة الأنبياء والملائكة عند اللَّه جل وعلا تفصيلًا، رضي اللَّه عن الجميع، وقد جاء منها ما جاء عند السلف

فلا يقال هي من فضول الكلام والعلم، كما لا يقال: التصديق بأسماء الملائكة وأعمالهم تفصيلًا من فضول الكلام والعلم، فإذا لم يكن ذلك كذلك فكذلك التصديق بمنزلتهم وفضلهم تفصيلًا

والآن نأتي للبحث

قال الدارمي في نقضه:

(  ٣٧ - حَدَّثَنَاه عَبْدُ الله بْنُ صَالِحٍ، حَدثنِي اللَّيْث، حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ:

لَقَدْ قَالَتِ المَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا، مِنَّا المَلَائِكَةُ المُقَرَّبُونَ، وَمِنَّا حَمَلَةُ العَرْشِ، وَمِنَّا الكِرَامُ الكَاتِبُونَ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ الله اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا نسأم وَلَا نفتر، خلقتَ بَني آدَمَ فَجَعَلْتَ لَهُمُ الدُّنْيَا، وَجَعَلْتَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ

فَكَمَا جَعَلْتَ لَهُمُ الدُّنْيَا فَاجْعَلْ لَنَا الآخِرَةَ فَقَالَ: لَنْ أَفْعَل، ثُمَّ عَادُوا فَاجْتَهَدُوا المَسْأَلَةَ فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِك، فَقَالَ: لَنْ أَفْعَل، ثُمَّ عَادُوا فَاجْتَهَدُوا المَسْأَلَة بِمثْل ذَلِكَ، فَقَالَ: لَنْ أَجْعَلَ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، كَمَنْ قُلْتُ لَهُ كُنْ فَكَانَ )

قال عبد اللَّه بن أحمد في السنة:

( ١٠٦٥ - حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ، نا عُثْمَانُ بْنُ عَلَّاقٍ وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ حِصْنِ بْنِ عَلَّاقٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ رُوَيْمٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ:

أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: رَبَّنَا خَلَقْتَنَا وَخَلَقْتَ بَنِي آدَمَ، فَجَعَلْتَهُمْ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَشْرَبُونَ الشَّرَابَ وَيَلْبَسُونَ الثِّيَابَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ وَيَرْكَبُونَ الدَّوَابَّ وَيَنَامُونَ وَيَسْتَرِيحُونَ، وَلَمْ تَجْعَلْ لَنَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَاجْعَلْ لَهُمُ الدُّنْيَا، وَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا، فَأَعَادُوا الْقَوْلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي كَمَنْ قُلْتُ لَهُ: كُنْ فَكَانَ )

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوىٰ عز هذه المسألة / ٣٥٧ - ٤:

( وكنت أحسب أن القول فيها محدث حتىٰ رأيتها اثرية سلفية صحابية

فانبعثت الهمة الىٰ تحقيق القول فيها فقلنا حينئذ بما قاله السلف، فروىٰ أبو يعلىٰ الموصلي فى كتاب التفسير المشهور له عن عبد اللَّه بن سلام، وكان عالماً بالكتاب الأول والكتاب الثاني

وكان كتابيًّا وقد شهد له النبي ﷺ بحسن الخاتمة، ووصية معاذ عند موته، وأنّه أحد العلماء الأربعة الذين يبتغىٰ العلم عندهم 

قال: ما خلق اللَّه خلقاً أكرم عليه من محمد الحديث عنه.

قلت: ولا جبرائيل ولا ميكائيل، قال: يا ابن أخي أوتدري ماجبرائيل وميكائيل إنّما جبرائيل وميكائيل خلق مسخر مثل الشمس والقمر وما خلق اللَّه تعالىٰ خلقاً أكرم عليه من محمد

وروىٰ عبد اللَّه في التفسير وغيره عن معمر عن زيد بن اسلم أنّه قال:

قالت الملائكة: ياربنا جعلت لبنى آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون، فاجعل لنا الاخرة، فقال: وعزتي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدى كمن قلت له: كن فكان 

وكذلك قصة سجود الملائكة كلهم أجمعين لآدم ولعن الممتنع عن السجود له، وهذات شريف وتكريم له )

أقول: رواية هذا لدىٰ السلف ورواية عثمان الدارمي وعبد اللَّه والليث بن سعد وزيد بن أسلم - وقد ثبت هذا عن زيد بن أسلم في تفسير الطبري - وغيرهم من أئمة السلف بلا نكير برهان دالٌّ علىٰ عقد قلوبهم بذلك

قال ابن خزيمة في كتاب التوحيد [٨]:

” وأشهد أنّ محمدًا رسوله المصطفىٰ ونبيه المرتضىٰ اختاره اللَّه لرسالته ومستودع أمانته فجعله خاتم النبيين وخير خلق رب العالمين “

أقول: قوله: خير خلق رب العالمين فيه تفضيله ﷺ علىٰ كل الملائكة عليهم السلام، وهذا من تفضيل صالحي بني آدم علىٰ الملائكة

وقد قال الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث: ” وَصَلَّىٰ اللَّهُ عَلَىٰ خَاتَمِ رُسُلِهِ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ أَفْضَلُ النَّبِيِّينَ وَخِيَرَةُ اللَّهِ مِنْ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ”

فقوله خيرة اللَّه من الخلق تفضيل له ﷺ علىٰ الملائكة

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوىٰ بعد ذكره لما رواه الدارمي وعبد اللَّه بن أحمد وغيره / ٣٤٤ - ٣:

( وما علمت عن أحد من الصحابة ما يخالف ذلك، وهذا هو المشهور عند المنتسبين الى السنة من أصحاب الائمة الأربعة وغيرهم وهو أن الأنبياء والأولياء أفضل من الملائكة )

وقال:

( وأقل ما في هذه الآثار أن السلف الأولين كانوا يتناقلون بينهم أن صالحي البشر أفضل من الملائكة من غير نكير منهم لذلك ولم يخالف أحد )

وذكر وجهاً طيباً في تفضيل صالحي بن آدم فقال في مجموع الفتاوىٰ / ٣٧٠:

( الدَّلِيلُ الْحَادِي عَشَرَ: أَحَادِيثُ الْمُبَاهَاةِ مِثْلُ:

إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَىٰ سَمَاءِ الدُّنْيَا وَعَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَيُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ بِالْحَاجِّ

وَكَذَلِكَ يُبَاهِي بِهِمْ الْمُصَلِّينَ، يَقُولُ: اُنْظُرُوا إلَىٰ عِبَادِي قَدْ قَضَوْا فَرِيضَةً وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَىٰ

وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَالْمُبَاهَاةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْأَفَاضِلِ ) 

أقول: وخير دليل من القرآن

قال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}

قال ابنُ القَيِّمِ:

( اعلَمْ أنَّ اللَّهَ سُبحانَه وتعالىٰ اختَصَّ نوعَ الإنسانِ مِن بين خَلْقِه بأن كَرَّمه وفَضَّله، وشَرَّفه، وخَلَقَه لنَفْسِه، وخَلَق كُلَّ شَيءٍ له، وخَصَّه من معرفتِه ومحبَّتِه وقُربِه وإكرامِه بما لم يُعْطِه غيرَه

وسَخَّر له ما في سَمواتِه وأرضِه وما بينهما، حتىٰ ملائِكتُه - الذين هم أهلُ قُربِه - استخدمَهم له، وجعَلَهم حَفَظةً له في منامِه ويقظَتِه، وظَعْنِه وإقامتِه، وأنزل إليه وعليه كُتُبَه، وأرسَلَه وأرسَلَ إليه، وخاطَبَه وكَلَّمه منه إليه

واتَّخَذ منهم الخليلَ والكليمَ والأولياءَ والخواصَّ والأحبارَ، وجعَلَهم مَعدِنَ أسرارِه، ومحَلَّ حِكمَتِه، ومَوضِعَ حُبِّه، وخَلَق لهم الجنَّةَ والنَّارَ، وخلق الأمرَ، والثَّوابُ والعِقابُ مدارُه على النوعِ الإنسانيِّ، فإنَّه خُلاصةُ الخَلقِ، وهو المقصودُ بالأمرِ والنَّهيِ، وعليه الثوابُ والعِقابُ

فللإنسانِ شأنٌ ليس لسائِرِ المخلوقاتِ، وقد خَلَق أباه بيَدِه، ونفخ فيه من رُوحِه، وأسجد له مَلائِكَتَه، وعَلَّمَه أسماءَ كُلِّ شَيءٍ، وأظهر فَضْلَه علىٰ المَلائِكةِ فمَن دونَهم من جميعِ المخلوقاتِ، وطرَدَ إبليسَ عن قُربِه، وأبعَدَه عن بابه: إذ لم يسجُدْ له مع السَّاجِدينَ، واتَّخَذه عَدُوًّا له

فالمُؤمِنُ من نوعِ الإنسانِ خَيرُ البَرِيَّةِ علىٰ الإطلاقِ، وخِيرةُ اللَّهِ مِن العالَمينَ )

أقول: وهذا القول ظاهر في كلام الطبري، وبل قد قال ابن أبي حاتم في تفسيره:

١٩٤٣٢ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ مَنْزِلَةِ الْمَلائِكَةِ مِنَ اللَّهِ؟، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَنْزِلَةُ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمُ مِنْ مَنْزِلَةِ مَلَكٍ، واقرءوا إِنْ شِئْتُمْ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ البرية} ... )

وهذا سواء أصح أم لم يصح ففيه ما ذكرنا من معنىٰ رواية ذلك بلا نكير لدىٰ السلف

وقال ابن القيم في بدائع الفوائد:

( ومنها أنّه سُئِلَ – يعني شيخ الإسلام – عن صالحي بني آدم والملائكة أيهما أفضل، فأجاب بأنٌ صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية والملائكة أفضل باعتبار البداية

فإنّ الملائكة الآن في الرفيق الأعلىٰ منزهين عما يلابسه بنو آدم مستغرقون في عبادة الرب ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر، وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة فيصير حال صالحي البشر أكمل من حال الملائكة 

وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل، وتتفق أدلة الفريقين ويصالح كل منهم علىٰ حقه )

أقول: كمال النهاية خير من كمال البداية، فلا يتناقض هذا القول مع قولنا بتفضيل صالحي البشر

وأمّا حجة من يفضل الملائكة فبما روىٰ مسلم، قال رحمه اللَّه:

( (٢٦٧٥) - حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُرَيْبٍ - وَاللَّفْظُ لِأَبِي كُرَيْبٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال:

قال رسول اللَّه ﷺ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: 

أنا عند ظن عبدي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ، ذكرته في ملإ خير منه. وإن اقترب إلي شبرا، تقربت إليه ذراعا. وإن اقترب إلي ذراعا، اقتربت إليه باعا. وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة )

فاستدلوا بكون الملأ الذي عند الملائكة خير من الملأ الذي عند بني آدم

والجواب: ذلك لأنَّ اللَّه جل وعلا فيه، فلو كان في ملأ بني آدم كل الأنبياء لما كان أحسن من الملأ الذي فيه اللَّه جل وعلا بلا شك

هذا وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخلاف في صفة الهرولة...

دلالة الحس علىٰ الخالق وصفاته وأفعاله...

هل تثبت صفة البشبشة؟