قواعد في باب التناقض والاختلاف...

 بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:

فهذه بعض القواعد العامة في باب التناقض والاختلاف - أرجو نفعها - بإذن اللَّه، ولا حول ولا قوة إلّا باللَّه

قال ابن قُتَيبة في تَأوِيل مُشكِل القرآن متحدثاً عن أنواع الاختلاف / ١٣٧:

( قيل له: الاختلاف نوعان: اختلاف تغاير، واختلاف تضاد

اختلاف التضاد لا يجوز، وليست بواجده في شيء من القرآن بحمد اللَّه إلّا في الأمر والنّهي من الناسخ والمنسوخ

واختلاف التغاير: جائز )

أقول: فإذا فُهِمَ هذا فقوله جل وعلا: ( أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ وَلَو كانَ مِن عِندِ غَيرِ اللَّهِ لَوَجَدوا فيهِ اختِلافًا كَثيرًا )

يراد به اختلاف التضاد والتناقض فليس في كلامه جل وعلا باطل لا اختلاف التنوع

قال ابن جرير الطبريّ في تفسِيره:

( ٩٩٨٧ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفاً كَثِيراً ): أي قول اللَّه لا يختلف، وهو حقّ ليس فيه باطل، وإن قول الناس يختلف )

وهذا إسناد صحيح لقتادة بن دعامة السدوسي 

وقال محمد بن جرير أيضاً:

( ٩٩٨٨ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:

إنّ القرآن لا يكذّب بعضه بعضاً، ولا ينقض بعضه بعضاً، ما جهل الناس من أمره فإنّما هو من تقصير عقولهم وجهالتهم. وقرأ: (  وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفاً كَثِيراً ... )

وهذا إسناد قوي لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم مولىٰ عمر رضي اللَّه عنه

قال جل وعلا: ( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ )، والإحكام: إتقان الشيء وإصلاحه، أي أُتقِنَت آياته وأُصلِحَت من الخلل والتضاد 

طيب نأتي الآن للقواعد:

- ففي باب أخبار يوم القيامة والآخرة لدينا قاعدة عامة وهي أن اليوم الآخر متقلب الأحوال

قال الطبري:

( حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {لَترْكَبَنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ}، يقول: حالاً بعد حال، ومنزلاً عن منزل

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: ( لَترْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ )، قال: حالًا عن حال )

وهذا إسناد قوي لمجاهد بن جبر إمام المفسرين، والآية وإن كان المعني بها النبي ﷺ كما صح عن ابن عباس إلا أن الناس داخلون فيها تبعًا

وفد قُرِئَت الآية علىٰ وجه الجمع: (لتَركَبُنَّ طبقا عن طبق)

وعلىٰ هذه القراءة يدخل جميع الناس

ويوم القيامة كما قال جل وعلا: ( فِي يَوْم كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ )

قال الطبري:

( حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْه فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ )، ذاكم يوم القيامة )

وهذا إسناد صحيح

قال عبدُ الرزّاق في تفسِيره:

( ٣٣٢٢ - عَنِ الثَّوْرِيِّ , عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ , عَنْ عِكْرِمَةَ , فِي قَوْلِهِ تَعَالَىٰ: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ )، قَالَ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ )

أقول: سماك كان يتلقن فيُلقَن عن عكرمة حتىٰ يصل لابن عباس، والتلقين بالأصل تجويد للسند أي وصل له، فروايته هنا لمقطوع بعيدة عن التلقين

هذا مع كون الرواي عنه إمام ناقد وهو سفيان الثوري ومثله لا يروي منكرًا مما قد تلقنه سماك

فهذه فائدة معرفة الرواة عن الذين تُكلِّم فيهم، وذلك أن التضعيف بناءً علىٰ القاعدة العامة ليس دائمًا

فمثلًا سماك كان يتلقن عن عكرمة عن ابن عباس فيُلقَّن فروايته عن عكرمة عن ابن عباس ضعيفة جدًّا غير أنها من طريق سفيان وشعبة تمشي إذ كانا يفصلان بين ما تلقنه سماك وبين ما لم يتلقنه وكانا علىٰ علم بتلقنه

قال عبد اللَّه بن أحمد في العلل:

( ٧٩١ - قال أبي: قال حجاج: قال شعبة: كانوا يقولون لسماك: عكرمة عن ابن عباس، فيقول: نعم، قال شعبة: وكنت أنا لا أفعل ذلك به )

قال ابن رجب في شرح علل الترمذي:

( وقد رخص ابن معين في السماع ممن يتلقن إذا كان يعرف حديثه ويعرف ما يدخل عليه، فإن لم يعرف ما يدخل عليه، فإنه كرهه )

وهذا خاص بالأئمة النقاد العارفين كشعبة وسفيان

وقال ابن عدي في الكامل:

( حَدَّثَنَا عَلانٌ، حَدَّثَنا ابْنُ أَبِي مريم، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيىٰ يقول: سماك بْن حرب ثقة، وكان شُعْبَة يضعفه، وكان يقول في التفسير عِكرمَة، ولو شئت أن أقول له ابن عباس لقاله

قَالَ يَحْيىٰ بْن مَعِين: وكان شُعْبَة لا يروي تفسيره إلا عن عِكرمَة )

وروايته تفسيره عن عكرمة لا عن عكرمة عن ابن عباس لأن مثل ذلك ليس بموضع للتلقين إذ عامته يكون بوصل السند ولهذا كان يُلقَّن سماك فيُقَال له: عكرمة عن ابن عباس

وبعد فإذا فُهِمَ ما ذكرت من قبل فلا يُشكِل ورود أي أخبار متعاكسة عن يوم القيامة، فلدينا جواب عام واسع وهو أن نقول: هذا في حال وهذا في حال

فمثلًا قوله جل وعلا: ( فَيَومَئِذٍ لا يُسأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلا جانٌّ )، مقابل قوله: ( فَوَرَبِّكَ لَنَسأَلَنَّهُم أَجمَعينَ * عَمّا كانوا يَعمَلونَ )

لا يتناقضان فذاك بحال وهذا بحال 

قال ابن قُتيبَة في تَأوِيل مُشكِل القرآن / ١٦٣:

( فالجواب في ذلك أن يوم القيامة كما قال اللَّه تعالىٰ: {مِقدارُهُ خَمسينَ أَلفَ سَنَةٍ}

ففي مثل هذا اليوم يُسئَلون ولا يُسئَلون، لأنهم حين يُعرَضُون يوقفون علىٰ الذنوب ويحاسبون، فإذا انتهت المسألة ووجبت الحجة: {انشقت السماء وكانت وردىة كالدهان}

وانقطع الكلام، وذهب الخِصام، واسودت وجوه قوم، وابيضت وجوه قوم آخرين، وعُرِف الفريقان بسيماهم، وتطايرت الصحف من الأيدي، فآخِذٌ ذات اليمين إلىٰ الجنة، وآخِذٌ ذات الشمال إلىٰ النار

وكذلك قال ابن عباس في قوله: ( فَيَومَئِذٍ لا يُسأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلا جانٌّ )، قال: هو موطنٌ لا يُسألون فيه، ومثله: ( لا يُسئل عن ذنوبهم المجرمون )

أقول: وكذلك قوله جل وعلا: (  لا تَختَصِموا لَدَيَّ وَقَد قَدَّمتُ إِلَيكُم بِالوَعيد )، وقوله: ( هذا يَومُ لا يَنطِقونَ * وَلا يُؤذَنُ لَهُم فَيَعتَذِرونَ )

في مقابلة قوله: ( ثُمَّ إِنَّكُم يَومَ القِيامَةِ عِندَ رَبِّكُم تَختَصِمونَ )، وقوله: ( هاتوا بُرهانَكُم إِن كُنتُم صادِقين )

هذا لا يتناقض، فهما حالان مختلفان غير مجتمعين

قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن [١٦٤]:

” والجواب عن هذا كله نحو جوابنا الأول: لأنهم يختصمون ويُدعَى المظلومون علىٰ الظالمين، ففي تلك الحالة يختصمون، فإذا وقع القِصاص وثبت الحكم، قيل لهم: لا تختصموا ولا تنطقوا ولا تعتذروا، فليس ذلك بمغنٍ ولا نافعٍ لكم: فيَخسَئُون ”

وجامع الأمر أنهم يُساءَلون ويختصمون بحال حين يُعرَضون للحساب وإعطاء المظالم

ولا يُساءَل الواحد منهم ولا ينطق ولا يختصم بحال أخرىٰ حين ينتهي الحساب ويقع القصاص، يقال لهم: ( لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد )

و: (لا يُسئَل يومئذ عن ذنبه إنس ولا جان)، ولكن يُعرَفون من بعد بسيماهم من غير أن يُساءَلوا، ف: (يؤخذ بالنواصي والأقدام)

وينطقون بحال بعدها إذا ما أُلقُوا في النار، وإذا ما هم فيها، فيتكلمون طامعين بالخروج، فيقولون: (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل)

ويقولون: (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون)

فيقال لهم: (اخسئوا فيها ولا تكلمون)، وأنه لا سبيل إلىٰ الخروج، ففي ذلك يعودون لا ينطقون

فكل هذا لا ينقضه قوله في موضع أخر: (هذا يوم لا ينطقون)

وذاك أنهم كذلك في أحوال دون أحوال، فإذا حُشِرُوا عميًّا وبُكمًا وصمًّا، وإذا ما انتهت المحاسبة وانقضت المحاججة لم ينطقوا 

وقال أبو جعفر الطبري في التفسير: 

” فإن قال قائل: وكيف قيل: (هذا يوم لا ينطقون)

وقد علمت بخبر اللَّه عنهم أنهم يقولون: (ربنا أخرجنا منها)، وأنهم يقولون: (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين)، في نظائر ذلك مما أخبر اللَّه ورسوله عنهم أنهم يقولونه

قيل: إن ذلك في بعض الأحوال دون بعض

وقوله: (هذا يوم لا ينطقون)، يخبر عنهم أنهم لا ينطقون في بعض أحوال ذلك اليوم، لا أنهم لا ينطقون ذلك اليوم كله

فإن قال: فهل من بُرهان يعلم به حقيقة ذلك؟

قيل: نعم، وذلك إضافة يوم إلىٰ قوله: (لا يَنْطِقُونَ)، والعرب لا تُضيف اليوم إلىٰ فعل يفعل إلا إذا أرادت الساعة من اليوم والوقت منه

وذلك كقولهم: آتيك يومَ يقدمُ فلان، وأتيتك يوم زارك أخوك، فمعلوم أن معنىٰ ذلك: أتيتك ساعة زارك، أو آتيك ساعة يقدُم، وأنه لم يكن إتيانه إياه اليوم كله، لأن ذلك لو كان أخذ اليوم كله لم يضف اليوم إلىٰ فعل ويفعل، ولكن فعل ذلك إذ كان اليوم بمعنىٰ إذ وإذا اللتين يطلبان الأفعال دون الأسماء ”

وفي الباب قوله تعالىٰ: (فَإِذا نُفِخَ فِي الصّورِ فَلا أَنسابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلا يَتَساءَلونَ)، مقابل قوله: (وَأَقبَلَ بَعضُهُم عَلى بَعضٍ يَتَساءَلونَ)

وقوله تعالىٰ: (يَومَ يُنفَخُ فِي الصّورِ وَنَحشُرُ المُجرِمينَ يَومَئِذٍ زُرقًا)، وقوله: (وَرَأَىٰ المُجرِمونَ النّارَ فَظَنّوا أَنَّهُم مُواقِعوها وَلَم يَجِدوا عَنها مَصرِفًا)، وقوله: (إِذا رَأَتهُم مِن مَكانٍ بَعيدٍ سَمِعوا لَها تَغَيُّظًا وَزَفيرًا)، إلىٰ أن قال: (دَعَوْا هُنالكَ ثُبُورًا)

مقابل قوله: (وَنَحشُرُهُم يَومَ القِيامَةِ عَلى وُجوهِهِم عُميًا وَبُكمًا وَصُمًّا مَأواهُم جَهنَّم كُلَّما خَبَتْ زِدنَاهُم سَعِيرًا)

فهذا كله لا يتناقض، لأنهم بحال يقبل بعضهم علىٰ بعض يتساءلون، وبحال لا أنساب بينهم ولا يتساءلون

وبحال يُحشَرون زرق العيون، ويروا النار فيظنوا أنهم مواقعوها، وداخلوها، ويسمعوا منها تغيُّظًا وزفيرًا، ويدعون بالويل والثبور

وبحال يُحشَرون عميًا وبكمًا وصمًّا

وذاك - وهو قول ابن عباس - أنهم إذا نُفِخَ في الصور: (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ)

فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في الزجرة والنفخة الأخرىٰ للإحياء، إذا هم ينظرون، و: (أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) 

فهذا ما في الأمر الأول

وأما ما في الأمر الثاني، فإنهم يُحشَرون إلىٰ النار، وفي ذلك قال: (وسيق الذين كفروا إلىٰ جهنم زمرا)

ففي ذلك يأتون زرق العيون، وسود الوجوه، ويروا النار، فيوقنوا أنهم مواقعها وداخلوها، وتراهم من مكان بعيد، فيسمعوا لها تغيظًا وزفيرًا

ومن ثم تفتح لهم الأبواب، ويُعرَفون بسيماهم، فتأخذهم الزبانية من النواصي والأقدام، فتلقيهم في النار، ف: (دعوا هنالك ثبورا)

وقال قتادة: (يعرف المجرمون بسيماهم)، قال: يُعْرَفُونَ بِاسْوِدَادِ الْوُجُوهِ، وَزَرَقِ الأعين

فهذا، وهم محشرون إلىٰ موقف القيامة من قبل أيضًا، ففي ذلك قال: (ونحشرهم يوم القيامة علىٰ وجوههم عميًا وبكمًا وصمًّا)

فهذا ما في الأمر الثاني 

وقال ابن أبي حاتم في التفسير:

” ١٣٥٢٢ - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلا أَتَاهُ، فَقَالَ: أرأيت قوله: (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا)، وأخرىٰ: (عميًّا)

قَالَ: إِنَّ يَوْم الْقِيَامَة فيه حالات، يكونون في حال زرقًا، وفي حال عميًّا ”

وكذلك مع أخبار عذاب أهل النار لدينا قاعدة عامة، وهي أن لها سبعة أبواب وأن أهلها لابثين فيها أحقابًا

قال أبو بكر ابن أبي الدنيا:

( ٨ - حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: قوله: {لها سبعة أبواب}، قال: أولها جهنم، ثُمّ لظىٰ، ثُمّ الحُطَمة، ثُمّ السعير، ثُمّ سقر، ثُمّ الجحيم - وفيه أبو جهل - ثم الهاوية ) 

وهذا إسناد طيب لابن جريج

وقال تعالىٰ: {لَابِثِينَ فِيها أحْقَابًا}

والحقب مدة زمنية اختُلِفَ في تفسيرها وليس هذا موضع كلامنا الأن، وإنما ينبغي أن يُعلَم أنها لا انقطاع لها

قال ابنُ جريرٍ:

( حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال اللَّه: ( لابِثِينَ فِيها أحْقاباً )، هو ما لا انقطاع له، كلما مضى حُقُبٌ جاء حُقُب بعده )

وهذا إسناد صحيح

ولا يخفىٰ أن كل حقب يختلف عن الأخر وإلا ما كان في التنصيص علىٰ الأحقاب فائدة

ونحن نعلم بعذاب يسمىٰ الزمهرير يعذبون به بشدة البرد، فإذاً له حقبه كما أن لعذاب النار الحامية حقبها

فإذا عُرِفَ هذا، فلن يُستَشكل ورود اخبار مختلفة في عذاب أهل النار إذ يمكن حمل كذا علىٰ حقب وكذا علىٰ حقب، أو حمل كذا علىٰ دركة وكذا علىٰ دركة

فمثلًا قوله جل وعلا: ( ليس لهم طعام إلا من ضريع )، مقابل قوله: ( فليس اليوم هاهنا حميم ولا طعام إلا من غسلين )

قد يحمل علىٰ أن هذا في حقب وذاك في حقب، وقد يحمل علىٰ أن هذا في دركة وهذا في دركة

قالَ ابن قُتيبَة / ١٦٦ - ١٦٧:

( وقوله: (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ)، وهو يقول في موضع آخر: (فلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ)

فإنَّ النّارَ دركاتٍ، والجنة درجات، وعلىٰ قدر الذنوب والحسنات تقع العقوبات والمثوبات، فمن أهل النار من طعامه الزقوم، ومنهم من طعامه غِسلِين، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصديد

والضَّريع: نبتٌ يكون بالحجاز، يقال لرِطَبه: الشِّبرَق، لا يُسمِنُ ولا يُشبِعُ، وغِسلِين: فِعلِين من غَسَلتُ، كأنّه الغُسالة، قال بعض المفسرين: هو ما يسيل من أجساد المعذبين

وهذا نحو قوله: (سرايبلهم من قَطِرَان )، و: (سرايبلهم من قَطْرٍ آنٍ )، قراءة عكرمة ومن تابعه

والقطر: النحاس، والآن: الذي قد بلغ منتهىٰ حره، كأن قومًا يُسَربلُون هذا، وقومًا يُسَربُلون هذا، ويلبسون هذا تارةً، وهذا تارةً ) 

أقول: السرابيل معناها كما روىٰ الطبري:

( حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( سَرَابِـيلهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ )، قال: السرابيل: القُمُص )

والأن أكمل في باب التناقض والاختلاف بما يسر اللَّه وعليه نتوكل سبحانه وتعالىٰ

قال جل وعلا: ( قُل أَئِنَّكُم لَتَكفُرونَ بِالَّذي خَلَقَ الأَرضَ في يَومَينِ وَتَجعَلونَ لَهُ أَندادًا ذلِكَ رَبُّ العالَمينَ * وَجَعَلَ فيها رَواسِيَ مِن فَوقِها وَبارَكَ فيها وَقَدَّرَ فيها أَقواتَها في أَربَعَةِ أَيّامٍ سَواءً لِلسّائِلينَ * ثُمَّ استَوى إِلَىٰ السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلأَرضِ ائتِيا طَوعًا أَو كَرهًا قالَتا أَتَينا طائِعينَ )

فهذا مع أنه يقول في مكان أخر: ( أَأَنتُم أَشَدُّ خَلقًا أَمِ السَّماءُ بَناها * رَفَعَ سَمكَها فَسَوّاها وَأَغطَشَ لَيلَها وَأَخرَجَ ضُحاها * وَالأَرضَ بَعدَ ذلِكَ دَحاها )

فظن بعضهم أنه هذه الآيات دلت علىٰ خلق السماء قبل الأرض بعكس الآيات الأخرىٰ 

وليس هذا بشيء إذ الدحو معناه كما قال أحمد بن فارس في مقاييس اللغة / ٣٣٣

( دَحَوَ: الدَّالُ وَالْحَاءُ وَالْوَاوُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى بَسْطٍ وَتَمْهِيدٍ، يقَالُ: دَحَا اللَّهُ الْأَرْضَ يَدْحُوهَا دَحْوًا إذَا بَسَطَهَا )

فمعنىٰ الآية أن الأرض بُسطِتَ بعد خلق السماء لا أن خلقها هي كان بعد السماء، ودحا يدحو أصل الألف فيها واو فأُعِلَت بالقلب للتخفيف والمصدر من دحا: الدحو

قال ابن قُتيبَة في مشكل القرآن / ٤٨:

( وليس علىٰ كتاب اللَّه تحريف الجاهلين، وغلط المتأولين، وإنّما كان يجد الطاعن متعلَّقاً ومقالًا لو قال: والأرض بعد ذلك خلقها أو ابتدأها أو أنشأها، وإنّما قال: {دحاها}

فابتدأ الخلق للأرض علىٰ ما في الآي الأول في يومين، ثم خلق السموات وكانت دخانًا في يومين، ثم دحا بعد ذلك الأرض، أي بسطها ومدها، وكانت ربوة مجتمعة، وأرساها بالجبال، وأنبت فيها النبات في يومين، فتلك ستة أيام سواء للسائلين، وهو معنى قول ابن عباس )

أقول: والربوة معناها المكان المرتفع أو الأرض المستوية 

وقال جل وعلا: ( وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم وَأَنتَ فيهِم وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُم وَهُم يَستَغفِرونَ ) وقال: ( وَما لَهُم أَلّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُم يَصُدّونَ عَنِ المَسجِدِ الحَرامِ وَما كانوا أَولِياءَهُ إِن أَولِياؤُهُ إِلَّا المُتَّقونَ وَلكِنَّ أَكثَرَهُم لا يَعلَمونَ )

ففي الباب غير وجه، أما الأول فقال الطبري:

( فقال بعضهم: تأويله: (وَما كانَ اللَّهِ لِيُعَذِّبَهُمْ وأنْت فِيهِم)، أي وأنت مقيم بين أظهرهم، قال: وأنزلت هذه علىٰ النبي ﷺ وهو مقيم بمكة. قال: ثم خرج النبي ﷺ  من بين أظهرهم

فاستغفر من بها من المسلمين، فأنزل بعد خروجه عليه حين استغفر أولئك بها: (وَما كانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرونَ)

قال: ثم خرج أولئك البقية من المسلمين من بينهم، فعذب الكفار

حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك، في قوله: (وَما كانَ اللّهُ لِـيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ)، يعني النبي ﷺ، (وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، يعني: من بها من المسلمين.

(وَمَا لَهُمْ ألاَّ يُعَذّبَهُمُ اللَّه)، يعني مكة، وفيها الكفار )

وقال سعيد بن منصور في سننه:

( ٩٩١ - نا خالد بن عبد اللٌَه، عن حصين، عن أبي مالك في قوله عز وجل: (ةَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ * وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، قالَ: هَذِهِ لِلْمُسْلِمِينَ، (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ)، قَالَ: هَذِهِ لِلْمُشْرِكِينَ )

أقول: حصين هو ابن عبد الرحمن السلمي، وأبو مالك هو الغفاري 

قال ابن قُتَيبة في مشكل القرآن / ١٦٩ - ١٧٠:

( فإنّ النضر بن الحارث قال: (اللهم إنْ كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو أئتنا بعذاب أليم)، يريد أهلكنا ومحمداً - ﷺ - ومن معه عامة

فأنزل اللَّه تعالىٰ: (وما كان اللَّه معذبهم وهم يستغفرون)، أي وفيهم قوم يستغفرون يعني المسلمين 

يدلك علىٰ ذلك قول اللَّه تبارك وتعالىٰ: (وما كان اللَّه ليعذبهم وأنت فيهم وما كان اللَّه معذبهم وهم يستغفرون)

ثم قال: (مالهم ألا يعذبهم اللَّه)، خاصة: {وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياءه إلا المتقون}، يعني المسلمين

فعذبهم اللَّه بالسيف بعد خروج النبي - ﷺ - عنهم، وفي ذلك نزلت: (سئل سائل بعذاب واقع)، أي دعا داعٍ بعذاب واقع، ويعني النضر بن الحارث، (للكافرين ليس له من دافع)

يقول: هو للكافرين خاصة دون المؤمنين، وهو معنىٰ قول ابن عباس )

وهناك وجه أخر ذكره الطبري، فقال:

( وقال آخرون: معنى ذلك: (وما كان اللَّه ليعذبهم وأنت فيهم)، يا محمد، (وما كان اللَّه معذب المشركين وهم يستغفرون) أي: لو استغفروا، قالوا: ولم يكونوا يستغفرون

فقال جل ثناؤه إذ لم يكونوا يستغفرون: (ومالهم ألا يعذبهم اللَّه وهم يصدون عن المسجد الحرام)

ذكر من قال ذلك:

١٦٠٠٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وما كان اللَّه ليعذبهم وأنت فيهم وما كان اللَّه معذبهم وهم يستغفرون)

قال: إن القوم لم يكونوا يستغفرون، ولو كانوا يستغفرون ما عُذِّبوا

وكان بعض أهل العلم يقول: هما أمانان أنزلهما اللَّه: فأما أحدهما فمضىٰ، نبيُّ اللَّه، وأما الآخر فأبقاه اللَّه رحمة بين أظهركم، الاستغفارُ والتوبةُ

١٦٠٠٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (وما كان اللَّه ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون)، قال يقول: لو استغفروا لم أعذبهم )

أقول: هذان إسنادان صحيحان

وفي التفسير أوجه أخرىٰ إلّا أني لا أريد الإطالة

قال جل وعلا: ( ولَهُمْ رِزْقُهُمْ فِـيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا )

فقد دلت الآية علىٰ أوقات مختلفة، فالبكرة تدل علىٰ أول النهار، والعشي يدل علىٰ آخره، وما كان له أول وأخر فله انصرام وإذا انصرم عاقبه الليل والنهار

مع أنه جل وعلا يقول في موضع آخر: ( وجُمِعَ الشَّمْسُ والقَمَرُ )

قال ابن قُتَيبة في مشكل القرآن / ١٩٣:

(  ثم قال سبحانه: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ )

يريد: أنهما يسيران الدّهر دائبين ولا يجتمعان، فسلطان القمر بالليل، وسلطان الشمس بالنهار، ولو أدركت الشمس القمر لذهب ضوءه، وبطل سلطانه، ودخل النهار علىٰ الليل

يقول اللَّه جل وعز حين ذكر يوم القيامة: ( وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) وذلك عند إبطال هذا التدبير، ونقض هذا التأليف )

فإذا كانت الشمس تجمع مع القمر ويبطل ضوءهما فكيف يكون في الجنة البكرة والعشي؟

والبُكرة: هي ما بين أول النهار أي وقت صلاة الفجر إلىٰ طلوع الشمس

والعشي: ما بين غروب الشمس أي وقت المغرب إلىٰ الليل 

فالجواب ما ذكره ابن قتيبة، فقال:

( وأما قوله: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا}

فإن المناس يختلفون في مطاعمهم: فمنهم من يأكل الوجبة، ومنهم من عادته الغداء والعشاء، ومنهم من يزيد عليهما، ومنهم من يأكل متىٰ وجد لغير وقت ولا عدد

فأعدل هذه الأحوال للطاعم وأنفعها، وأبعدها من البشم والطوىٰ علىٰ العموم الغداء والعشاء

والعرب تكره الوجبة، وتستحب العشاء، وتقول: ترك العشاء مهرمة، وترك العشاء يذهب بلحم الكاذة

ونحن لا نعرف دهراً لا يختلف له وقت، ولا يرىٰ فيه ظلام ولا شمس، فأراد اللَّه عز وجل أن يعرفنا من حيث نفهم ونعلم أحوال أهل الجنة في مأكلهم، واعتدال أوقات مطاعمهم، فضرب لنا البكرة والعشي مثلًا، إذ كانا يدلان على العشاء والغداء

وروىٰ عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، أنّه قال: كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء أعجبه ذلك، فأخبرهم اللَّه تبارك وتعالىٰ أنْ لهم في الجنة هذه الحال التي تعجبهم في الدنيا )

أقول: كأن المراد ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيًّا بحسب أو بقدر بقدر وقت البكرة والعشي من أيام الدنيا، علىٰ ما قال الطبري، واللَّه العالم

قال يحيىٰ بن سلام في تفسِيره:

( قَوْلُهُ: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا )، نا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا كُلَّ سَاعَةٍ، وَالْبُكْرَةُ وَالْعَشِيُّ سَاعَتَانِ مِنَ السَّاعَاتِ وَلَيْسَ ثَمَّ لَيْلٌ إِنَّمَا هُوَ ضَوْءٌ وَنُورٌ

نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَيْسَ فِيهَا بُكْرَةٌ وَلَكِنْ يَؤْتُونَ بِهِ عَلَىٰ مَا كَانُوا يَشْتَهُونَ فِي الدُّنْيَا

قَالَ يَحْيَىٰ: بَلَغَنِي أَنَّهُ إِذَا مَضَى ثَلاثُ سَاعَاتٍ أُوتُوا بِغَدَائِهِمْ، فَإِذَا بَقِيَتْ ثَلاثُ سَاعَاتٍ أُوتُوا بِعَشَائِهِمْ

وَمِقْدَارُ النَّهَارِ عِنْدَهُمُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً فِي عَدَدِ نَهَارِ الدُّنْيَا )

أقول: تفسير سعيد عن قتادة صحيح لا شك فهو من كتاب، وتفسير ابن أبي نجيح كذلك صحيح فهو من كتاب القاسم بن أبي بزة، وأما ما ذكره يحيىٰ رحمه اللَّه، فاللَّه العالم به

ويحيىٰ بن سلام مفسر من مفسري السلف وعالم يجهله الكثيرون للأسف، فأنصح بالاطلاع علىٰ تفسيره 

هذا وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخلاف في صفة الهرولة...

دلالة الحس علىٰ الخالق وصفاته وأفعاله...

هل تثبت صفة البشبشة؟