هل كان إبليس من الملائكة؟
بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:
فقد خالف بعضهم خلافًا وقال قولًا هو بخلاف تفاسير أهل التأويل من السلف الماضين في الباب الذي هو موضوعنا
وذلك بدعوىٰ مخالفتها لظاهر القرآن وظاهر النصوص المحتج بها من قبل القوم
ولا يقف الأمر هاهنا فسرعان ما تجد إزراءً علىٰ تفاسير السلف وآثارهم ثم سرعان ما تجدهم يستدلون في الباب بأقوال أناس ليس لهم من السلامة في علمهم ولغتهم ولا لهم من أسباب التوفيق والإصابة ما لدىٰ السلف
كأمثال ابن حزم والزمخشري وأشباه هؤلاء من المعطلة الجهمية
وقد أتوا بقول واللَّه ما هو بسديد ولا رشيد، ويتوهمون أن السلف مع سلامة علمهم وتدينهم وصلاحهم ولغتهم وهم أهل القرون الفاضلة يخالفون ظاهر القرآن البين الذي لا يخفىٰ علىٰ من هو دونهم ويصيبه أهل البدع المخذولين!
ولعمري فمن خالف تفاسير السلف جهلًا بها واتباعًا لما يظنه ظاهر القرآن لهو أهون حالًا ممن يخالفها عالمًا بها واتباعًا لما يظنه ظاهر القرآن عنده وكأن السلف لا يعرفونه وهو أمام أعينهم
فالاعتراض علىٰ السلف لا يجوز أن يكون فيما هو ظاهر حاضر مما لا يتصور وجود أسباب لخفاءه وذهابه عن أفراد السلف فضلًا عن جمهورهم!
والصنف الأول هو الذي أعنيه بالمقام الأول بالكلام الذي سأذكره
فاعلم - رحمك اللَّه - أنّ اللَّه جل وعلا أنزل الكتاب علىٰ نبيه ﷺ ليبين لهم ما أنزل إليهم فقال جل وعلا:
( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم )
وأعلم الناس بمُبيِّن القرآن ﷺ هم صحابته رضي اللَّه عنهم، فأخذوا عنه ﷺ وعقلوا عنه معاني القرآن وأوجه تفسيره
قال أبو العباس ابن تيمية في مقدمة التفسير:
( يجب أنّ يعلم أنّ النبي بين لأصحابه معاني القرآن كما بيّن لهم ألفاظه، كقوله: (لتبين للناس ما أنزل إليهم)، يتناول هذا وهذا
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن - كعثمان بن عفان وعبد اللَّه بن مسعود وغيرهما - أنّهم كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر آيات لم يتجاوزها حتّى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً )
وقد أخذ الصحابة من بعضهم البعض أيضاً ابتغاء علم النبي ﷺ
قال أبو خيثمة في كتاب العلم:
١٣٣ - ثنا محمد بن عبد اللَّه الأنصاري، ثنا محمد بن عمرو بن علقمة، ثنا أبو سلمة، عن ابن عباس، قال:
وجدت عامة علم رسول اللَّه ﷺ عند هذا الحي من الأنصار، إن كنت لأقيل عند باب أحدهم، ولو شئت أنْ يؤذن لي عليه لأذن ولكن أبتغي بذلك طيب نفسه )
أقول: وهذا مثال علىٰ حرص أحد القوم وتواضعه من أجل علم النبي ﷺ
واعلم - رحمك اللَّه - أنّ ربنا سبحانه أثنىٰ علىٰ التابعين باتباع الصحابة، وبذلك أوجب اللَّه تعالىٰ لهم الرضوان
فكانوا بالجملة متبعين لأصحاب النبي ﷺ في باب التفسير
قال جل وعلا: ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي اللَّه عنهم ورضوا عنه )
قال قتادة كما روىٰ ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل: ” {والذين اتبعوهم بإحسان}، التابعين ”
قال أبو خيثمة في كتاب العِلْم:
٩٧ - ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن زيد، عن أيوب:
قال: قال رجل لمطرف: أفضل من القرآن تريدون؟
قال: لا، ولكن نريد نريد من هو أعلم منا بالقرآن
٥٠ - نا وكيع، عن الأعمش، عن أبي الضحىٰ، عن مسروق قال:
ما نسأل أصحاب محمد - ﷺ - عن شيء إلّا علمه في القرآن، إلّا أنّ علمنا يقصر عنه )
فهذا مثال علىٰ حرص التابعين واتباعهم لأصحاب النبي في باب التفسير
ثم جاء من بعدهم أتباع التابعين فأيضاً ساروا علىٰ نفس السبيل، فأخذوا عن التابعين الذين اتبعوا أصحاب النبي ﷺ
وكانوا من أهل القرون الفاضلة، فهذا وجه
ووجه آخر أن هؤلاء السلف الكرام أقرب النّاس للخير وأحرصهم عليه، فهم أقرب الناس للفهم والتوفيق
وقد قال جل وعلا: ( ولو علم اللَّه فيهم خيرا لأسمعهم )، أي لأفهمهم
قال الإمام محمد بن عبد الوهّاب كما في مفيد المستفيد / ٨١ - ٨٢:
( وهذا فُسِّر به قوله تعالىٰ: (ولو علم اللَّه فيهم خيرا لأسمعم)، أي حرصاً علىٰ تعلم الدّين: (لأسمعهم)، أي أفهمهم
فهذا يدلُّ علىٰ أنّ عدم الفهم في أكثر النّاس عدلًا منه سبحانه، لما يعلم في قلوبهم من عدم الحرص علىٰ تعلُّم الدّين )
ومن وجه آخر: فهم أوسع الناس لغةً وأعلمهم بها
أقول: فلهذا كله كان فهم السلف صحيحاً مقدماً سالماً، وإنما منهم يؤخذ التأويل فهم أهله
فتأويل من تأول القرآن بمخالفة مجموع السلف أو جمهورهم اتباعًا لتأويلات غيرهم أو لشذوذ وقع من بعضهم لهو تأويل باطل وإن كان صاحبه معذورًا
قال أبو العباس ابن تيمية في مقدمة التفسير:
( وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلىٰ ما يخالف ذلك كان مخطئاً في ذلك، بل مبتدعاً، وإنْ كان مجتهداً مغفوراً له خطؤه
نحن نعلم أنّ القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأنّهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنّهم أعلم بالحق الذي بعث اللَّه ﷺ، فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعاً )
ولعمري فكفىٰ خِذلانًا من اللَّه جل جلاله لأولئك القوم أن لم يوفقهم في توحيده فكيف يعتد بأقوالهم بخلاف قول السلف وكأنهم وفقوا والسلف لم يوفقوا؟!، وما لدىٰ هؤلاء ليستحقوا هذا؟، فسبحان اللَّه
هذا ولسنا ندعي عصمة السلف بأفرادهم إلّا أن مخالفتهم لا تكون فيما يُزعَم أنه ظاهر القرآن مما لا يكاد يخفىٰ أو يُتوهم تعارضه مع غيره
ولا تكون كذلك فيما تتابعت أقوالهم حتىٰ صار قولهم أجمعين أو قول أغلبهم لا كلهم لوجود شذوذ ضعيف
والآن ندخل في البحث بعد تقعيد هذه المقدمة
فالقول بملائكية إبليس هو قول جمهور أهل التأويل بمن فيهم ابن عباس وابن مسعود رضي اللَّه عنهما
قال ابن أبي حاتم في تفسيره:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثنا عَبَّادٌ- يَعْنِي ابن العوام -، عن سفيان بن حُسَيْنٍ، عَنْ يَعْلَىٰ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
كَانَ إِبْلِيسُ اسْمُهُ عَزَازِيلُ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَفِ الْمَلائِكَةِ مِنْ ذَوِي الأَرْبَعَةِ الأَجْنِحَةِ، ثُمَّ أُبْلِسَ بَعْدُ )
وهذا إسناد صحيح
وقد جزم ابن عباس بقوله فلا مجال للإسرائيلية كما أنه أصلًا لا يأخذ عن أهل الكتاب وينهىٰ عن مسألتهم
قال البخاري في صحيحه:
٧٥٢٣ - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ:
يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ نَبِيِّكُمْ ﷺ أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ بِاللَّهِ، مَحْضًا لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمُ اللَّهُ:
أنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ بَدَّلُوا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، وَغَيَّرُوا فَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ، قَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: لِيَشْتَرُوا بِذَلِكَ ثَمَنًا قَلِيلًا، أَوَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ، فَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ )
قال ابن جرير الطبري:
٦٩٣ - وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ )، كان من قبيل من الملائكة يقال لهم: الجن
وكان ابن عباس يقول: لو لم يكن من الملائكة لم يُؤمر بالسجود، وكان علىٰ خِزانة سماء الدنيا
قال: وكان قتادة يقول: جَنَّ عن طاعة ربه )
وهذا إسناد صحيح لقتادة بن دعامة السدوسي وقد جزم بقوله فلا يقال هذه إسرائيلية
وليس مراد قتادة رحمه اللَّه بكلامه أن الملائكة عليهم السلام من الجن الذين هم الثقل الثاني كما فهم ذلك بعضهم، فهذا غلط بين
وإنما قصد أن بعض الملائكة كانوا يسمون جنًّا
قال الطبري في تفسيره: ”حدثنا بِشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَقالُوا اتَّـخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدا سُبْحانَهُ بَلْ عِبـادٌ مُكْرَمُونَ}
قال: قالت الـيهود: إن اللَّه تبارك وتعالىٰ صاهر الجنّ، فكانت منهم الملائكة، قال اللَّه تبارك وتعالىٰ تكذيبًا لهم وردّا عليهم:{ بَلْ عِبَـادٌ مُكْرَمُونَ}،وإن الـملائكة ليس كما قالوا، إنما هم عبلد أكرمهم بعبادته ”
فهنا يتضح أنه لا يقول بأن الجن من الملائكة
وقال يحيىٰ بن سلام في تفسيره:
سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ مِنَ الْجِنِّ قَبِيلٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ يُقَالُ لَهُ الْجِنُّ )
هذا إسناد صحيح لقتادة
وأنت لو نظرت فستجد الطبري وابن أبي حاتم وعبد الرزاق ويحيىٰ بن سلام كلهم في تفاسيرهم يروون أو يحكون ما يفيد أن إبليس كان من الملائكة بلا نكير
قال أبو عبيد القاسم بن سلام في الإيمان:
( وقد يلزم أهل هذا الرأي ممن يدعي أنّ المتكلم بالإيمان مستكمل له، من التبعة ما هو أشد مما ذكرنا
وذلك فيما قص علينا من نبإ إبليس في السجود لآدم فقال: (إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين)، فجعله اللّٰه بالاستكبار كافراً وهو مقر به غير جاحد له:
ألا تسمع قوله: (خلقتني من نار وخلقته من طين)، وقوله: (رب بما أغويتني)
فهذا الآن يقر بأنّ له رب وأثبت القدر أيضًا بقوله: (بما أغويتني)، وقد تأول بعضهم في قوله: (وكان من الكافرين)، أنّه كان كافرًا قبل ذلك!
وهذا لا وجه له عندي، لأنّه لو كان كافرًا قبل أنّ يؤمر بالسجود لما كان من عِداد الملائكة ولا كان عاصيًا إذا لم يكن ممن أُمر بالسجود، وينبغي في هذا القول أنّ يكون إبليس قد عاد للإيمان بعد الكفر لقوله: (رب بما أغويتني)، وقوله: (خلقتني من نار وخلقته من طين) فهل يجوز لمن يعرف اللّٰه وكتابه وما جاء من عنده أنّ يثبت الإيمان لإبليس اليوم؟! )
قال ابن قتيبة في غريب القرآن:
( ( ١- (الجن)، من الاجتنان وهو الاستتار، يقال للدرع: جنة؛ لأنّها سترت ويقال: أجنه الليل؛ أي: جعله من سواده في جنّة: وجن عليه الليل
وإنّما سموا جنًّا: لاستتارهم عن أبصار الإنس
وقال بعض المفسرين في قوله: (فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه)، أي: من الملائكة فسماهم جِنًّا لاجتنانهم واستتارهم عن الأبصار
وقال الأعشىٰ يذكر سليمان النبي ﷺ:
وسخر من جن الملائك تسعة ... قياما لديه يعملون بلا أجر )
فأنت ترىٰ الآن ابن قتيبة شيخ الإمام أحمد وأبا عبيد وهو من طبقة أحمد يذكران هذا ولا ينكر عليهما أبدًا، مما يدل علىٰ تقبل هذا في زمانها
وما يزعم أنه يخالف ظاهر القرآن هو أصلًا ظاهر القرآن فقوله جل وعلا:
( إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين )
لا يحتمل إلا الاستثناء المتصل فإن جُعِلَ الاستثناء منقطعًا فكيف يدخل في الأمر حينئذٍ
فبعضهم قال: أُمِرَ أمراً خاصاً به، وهذا قول من كيس القائل لا دليل عليه
وبعضهم قال: دخل بالأمر لأنه كان معهم، وهذا قول عجيب فياللعجب أين ظاهر القرآن الذي تحدثوا عنه في هذا القول حينئذٍ؟!، ولئن كان هذا أمرًا محتملًا حقًّا فلا وجه له:
إذ حق كتاب اللَّه جل وعلا أن يحمل علىٰ أشهر الأوجه وأبينها لا علىٰ أغربها وأبعدها، فكيف يعدل عن الظاهر لهذا؟!
قال الدارمي في نقضه:
( غير أنا نقول: لا يحكم للأغرب من كلام العرب علىٰ الأغلب، ولكن نصرف معانيها إلىٰ الأغلب، حتّىٰ تأتوا ببرهان أنّه عنّىٰ بها الأغرب، وهذا هو المذهب الذي إلىٰ العدل والإنصاف أقرب )
وقد فقه السلف هذا الباب فقال يحيىٰ بن سلام وابن أبي حاتم في تفسيرهما:
( وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَوْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلائِكَةِ لَمْ يُؤْمَرْ بِالسُّجُودِ )
وهذا القول سواء أصح أم لم يصح عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - ففيه برهان وحجة لقول السلف وللَّه الحمد
فأمّا الاعتراضات علىٰ أقوال السلف من جهة المعاصرين والمتأخرين:
فمنها أنه تعالىٰ نسبه إلىٰ الجن فقال: {إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه}، فكيف يكون ملاكًا؟
والجواب: أن هذا لا ينفي ملائكيته، قال جل وعلا: ( وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا )، أي بينه وبين الملائكة
فالجن لفظ عند العرب يطلق لكل ما اجتن عن الأبصار فلا يمتنع إطلاقه علىٰ الملائكة
قال ابن قتيبة في غريب القرآن
( وقال بعض المفسرين في قوله: (فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه)، أي: من الملائكة فسماهم جِنًّا لاجتنانهم واستتارهم عن الأبصار
وقال الأعشىٰ يذكر سليمان النبي ﷺ:
وسخر من جن الملائك تسعة ... قياما لديه يعملون بلا أجر )
ومن الاعتراضات: أن خلقته كانت من النار فكيف يكون من الملائكة، وهم من نور كما قال ﷺ: ( خلقت الملائكة من نور )
والألف واللام لاستغراق الجنس أي كل الملائكة
وكذلك الملائكة كما قال تعالىٰ: ( لا يعصون اللَّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون )، وقال: ( ويفعلون ما يؤمرون )
والجواب: أن هذا ليس بمشكل، لأن العام قد يخصص
فإذا ثبت ما يتوهم مخالفته لذلك فهو مخصوص من العموم لا أنه مناقض له، وذلك كتخصيص قوله جل وعلا: ( وللذكر مثل حظ الأنثيين )، بأن لا يرث مسلم كافر مثلًا
ولا مانع شرعًا من كون اللَّه جل وعلا قد خلق صنفًا من الملائكة من نار السموم بخلاف غيرهم أو يكون هذا خاصًا بإبليس إذ دل الدليل علىٰ هذا
وكذلك غير مدفوع شرعًا أن يكون اللَّه جل وعلا لما أمرهم بالسجود نزعم منهم العصمة ووكلهم إلىٰ أنفسهم ابتلاءً واختبارًا، أو فعل هذا بإبليس وحده خاصة
قال أبو جعفر الطبري بعد ذكره لقول من قال بأنه من الجن:
( هذه علل تنبئ عن ضعف معرفة أهلها، وذلك أنّه غيرُ مستنكر أن يكون اللَّه جل ثناؤه خَلق أصنافَ ملائكته من أصنافٍ من خلقه شَتَّىٰ، فخلق بعضًا من نُور، وبعضًا من نار، وبعضًا مما شاء من غير ذلك
وليس في ترك اللَّه جل ثناؤه الخبر عَما خَلق منه ملائكته، وإخبارِه عما خلق منه إبليس - ما يوجب أن يكون إبليس خارجًا عن معناهم إذْ كان جائزًا أن يكون خلق صِنفًا من ملائكته من نار كان منهم إبليس، وأن يكون أفرد إبليس بأنْ خَلقه من نار السموم دون سائر ملائكته
وكذلك غيرُ مخرجه أن يكون كان من الملائكة بأنْ كان له نسل وذرية، لِمَا ركَّب فيه من الشهوة واللذة التي نُزعت من سائر الملائكة، لِمَا أراد اللَّه به من المعصية
وأما خبرُ اللَّه عن أنّه من الجن، فغير مدفوع أن يسمىٰ ما اجتنّ من الأشياء عن الأبصار كلها جنًّا - كما قد ذكرنا قبل في شعر الأعشىٰ - فيكون إبليسُ والملائكةُ منهم، لاجتنانهم عن أبصار بني آدم )
وقد خالف في ذلك الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وشذا عن بقية السلف، والحق مع الجمهور
ولا يصلح أن يؤتىٰ بكلام ابن كثير رحمه اللَّه في الباب بنظرته السلبية للآثار إذ يزعم أن غالب ما جاء منها إسرائيليات!
والعجب من أصحاب موقع الدرر السنية يستدلون بقول الزمخشري إذ قالوا:
( وقال الزَّمَخشَريُّ: إن قُلتَ: إبليسُ كانَ جِنِّيًّا بدَليلِ قَولِه تعالى: (كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)، فمِن أينَ تَناوَلَه الأمرُ وهوَ للمَلائِكةِ خاصَّةً؟
قُلتُ: كانَ في صُحبَتِهم، وكانَ يَعبُدُ اللَّهَ تعالىٰ عِبادَتَهم، فلمَّا أُمِروا بالسُّجودِ لآدَمَ والتَّواضُعِ لَه كرامةً لَه، كانَ الجِنّيُّ الَّذي مَعَهم أجدَرَ بأن يتَواضَعَ، كما لَو قامَ لمُقبِلٍ علىٰ المَجْلِسِ عِلْيَةُ أهلِهِ وسَراتُهم، كانَ القيامُ على واحِدٍ بَينَهم هوَ دونَهم في المَنزِلةِ أوجَبَ، حَتَّى إنْ لَم يَقُم عُنِّفَ وقيلَ لَه: قد قامَ فلانٌ وفلانٌ، فمن أنتَ حَتَّىٰ تَتَرَفَّعَ عَنِ القيامِ )
فهل شيء أشبه من التقول علىٰ كتاب اللَّه جل وعلا بغير حجة وبالرأي والقياس البعيد من هذا؟
سبحان اللَّه وأي تواضع بأن يسجد ولم يؤمر فيقدم بين يدي اللَّه!!
فياللعجب يتكلمون عن ظاهر القرآن ثم يتكلفون قولًا علىٰ القياس المحض لمخالفة ظاهره!
والعجيب أنهم يقولون قد تشبه بالملائكة وكان معهم وكذا وكذا، ومع ذلك يبررون عدم كونه منهم أنه عصىٰ والملائكة لا يعصون:
فإذا كان تشبه بهم وتطبع بطباعهم وكان خيرًا فلم عصىٰ وهو خير طيب كنفوس الملائكة؟، فياللعجب
ثم ينقلون عن الشنقيطي: ( وقال أيضًا: ما يَذكُرُه المُفَسِّرونَ عَن جَماعةٍ مِنَ السَّلَفِ كابِن عَبَّاسٍ وغَيرِهِ من أنَّه كانَ من أشرافِ المَلائِكةِ، ومن خُزَّانِ الجَنَّةِ، وأنَّه كانَ يُدَبِّرُ أمرَ السَّماءِ الدُّنيا، وأنَّه كانَ اسمُه عزازيلَ؛ كُلُّه مِنَ الإسرائيليَّاتِ الَّتي لا مُعَوَّلَ عليها )
فأي فجور بأي ترمي ابن عباس بأنه أخذ من أهل الكتاب ما يخالف ظاهر القرآن وجزم به فأضل الناس؟
وأي جهل بأن تنسب للسلف الكرام بأنهم يتلقون في أصول الدين وأركان الإيمان الإسرائيليات فتكون هي عمدتهم وكأنهم مساكين لا شيء عندهم؟
ثم يعرضون قول القرطبي:
( وقيلَ: إنَّ إبليسَ كانَ مِنَ المَلائِكةِ، والِاستِثناءُ الوارِدُ في الآياتِ استِثناءٌ مُتَّصِلٌ، قال القُرطُبيُّ:
( هوَ قَولُ جُمهورِ العُلَماءِ، كابنِ عَبَّاسٍ، وابنِ مَسعودٍ، وابنُ جُرَيجٍ، وسَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ، وقَتادةَ وغَيرِهم، وهوَ اختيارُ الشَّيخِ أبي الحَسَن الأشعَريِّ، والشَّيخِ موَفَّقِ الدِّين ابنِ قُدامةَ، وأئِمَّةِ المالِكيَّةِ، ورَجَّحَه الطَّبَريُّ، وهوَ ظاهِرُ الآيةِ )
والرَّاجِحُ أنَّه مِنَ الجِنِّ. )
فالراجح إذاً ظاهر القرآن الذي خفي علىٰ جمهور أهل التأويل؟، سبحان اللَّه فليتق اللَّه أصحاب هذا الموقع فما رأيت: إزراء كهذا علىٰ تفاسير السلف!
ويبقىٰ هنا لدينا قول قد اختاره شيخ الإسلام فقال:
( لم يَكُن في المَأمورينَ بالسُّجودِ أحَدٌ مِنَ الشَّياطينِ: لَكِنْ أبوهم إبليسُ هوَ كانَ مَأمورًا فامتَنَعَ وعَصىٰ، وجَعلَه بَعضُ النَّاسِ مِنَ المَلائِكةِ لدُخولِهِ في الأمرِ بالسُّجودِ، وبَعضُهم مِنَ الجِنِّ: لأنَّ لَه قَبيلًا وذُرِّيَّةً ولِكَونِهِ خُلِقَ من نارٍ والمَلائِكةُ خُلِقوا من نُورٍ
والتَّحقيقُ: أنَّه كانَ مِنهم باعتِبارِ صورَتِهِ ولَيسَ مِنهم باعتِبارِ أصلِهِ ولا باعتِبارِ مِثالِهِ، ولَم يَخرُجْ مِنَ السُّجودِ لآدَمَ أحَدٌ مِنَ المَلائِكةِ: لا جِبرائيلُ ولا ميكائيلُ ولا غَيرُهما )
وهذا أهون من قول القوم وأقرب للحق وليس فيه إزراء علىٰ السلف إلّا أنه أيضاً قول مرجوح
والحق مع السلف في ذلك فلم يقيدوا ملائكيته باعتبار الصورة، وليس كونه منهم باعتبار الخلقة بمنافٍ لخروجه من السجود إذ هذا باب عموم وخصوص
واللَّه المستعان، فهذا وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد
تعليقات
إرسال تعليق