كلمة جامعة في تفسير الحروف المقطعة
بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله، وصحبه ومن ولاه، وبعد:
فهذه فكلمة أرجو أن تكون جامعة في تفسير الحروف المقطعة، ولا حول ولا قوة إلّا باللَّه
قال ابنُ قُتَيبة في تَأوِيل مُشكِل القرآن مبيناً أقوال المفسرين في هذه الحروف / ٣٧٩ - ٣٨٠:
( فقد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة:
- فكان بعضهم يجعلها أسماء للسورة تُعرف كل سورة بما افتُتِحت به منها
- وكان بعضهم يجعلها أقساماً
- وكان بعضهم يجعلها حروفاً مأخذوة من صفات اللّٰه تعالىٰ، يجتمع بها في المُفتتَح الواحدة صفاتٌ كثيرة، كقول ابن عباس في: {كهيعص}، إنّ الكاف من كافٍ، والهاء من هادٍ، والياء من حكيمٍ، والعين من عليمٍ، والصاد من صادقٍ
وقال الكلبي: هو كتابٌ كافٍ، هادٍ، حكيمٌ، عالمٌ، صادقٌ
ولكل مذهب من هذه المذاهب وجه حسن، ونرجو ألا يكون ما أُريد بالحروف خارجاً منها إنّ شاء اللَّه تعالىٰ )
وهناك أقوال لم يذكرها المصنف في الحروف المقطعة كتفسيرها باسم اللَّه الأعظم
وكتفسيرها بأنّها حروف من أسماء وأفعال فهي علىٰ هذا الوجه من باب الحذف والاختصار وكتفسيرها بأنَّها حروف لكل منها معانٍ شتىٰ فهي من باب الحذف والاختصار أيضاً ولكن هذا القول أعم من السابق
وهذا كله سيأتي إن شاء اللَّه تفصيلًا الكلام عنه، فنبدأ بالأول وهو القول بأنها اسم من أسماء القراءن
قال ابن أبي حاتم في التفسير:
( قوله: {الم}، اختُلِفَ في تفسيره علىٰ أوجه
- ومن فسره علىٰ اسم القرآن
٥٠ - حدثنا أبي، ثنا أبو حذيفة، ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {الم}، من أسماء القرآن
وكذا فسره قتادة، وزيد بن أسلم )
أقول: حذيفة وإن كان فيه ما فيه فيحتمل بأثر مباشر كهذا ما لم يخالف، وهو لم يخالف، والراوي عنه إمام لا يروي المناكير، فالأثر صحيح إن شاء اللَّه
وقد ورُوي هذا القول عن قتادة: (اسم من أسماء القرآن)، لدىٰ عبد الرزاق في تفسيره من طريق معمر
ولدىٰ الطبري من طريق عبد الرزاق عن معمر
ورواية معمر عن قتادة علىٰ الصحيح غير محفوظة إذ جلس عنده وهو صغير فلم يحفظ الأسانيد
قال ابن أبي خيثمة في تاريخه:
( ١٢٠٣ - وسمعت يحيىٰ بن معين يقول: قال معمر: جلست إلىٰ قتادة وأنا صغير فلم أحفظ أسانيده )
أقول: فقد يقال أن ما رواه عن قتادة مباشرة إذاً يحتمل إذ ليس فيه إسناد، وهذا صحيح
فقد جاء من طريق محمد بن كثير الصنعاني عن معمر أنه جالس قتادة وهو صغير فحفظ عنه المتون كأنما نقشت في صدره
وابن كثير الصنعاني ضعيف غير أنه يحكي كلام شيخه دون سند
قال ابن جرير الطبري عن هذا الوجه من التفسير:
( فأمّا الذين قالوا: {الۤمۤ} اسم من أسماء القرآن، فلقولهم ذلك وجهان:
أحدهما أن يكونوا أرادوا أن: {الۤمۤ}، اسم للقرآن كما الفرقان اسم له )
وهناك القول بأنها من أسماء السور
قال الطبري:
( حدثني يونس بن عبد الأعلىٰ، قال: أنبأنا عبد اللَّه بن وهب، قال: سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن قول اللَّه: {الم ذلك الكتابُ}، و: {الۤـمۤ * تَنزِيلُ}، و: {الۤمۤر تِلْكَ}
فقال: قال أبي: إنما هي أسماء السور )
أقول: هذا إسناد إلىٰ قوي لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم مولىٰ عمر رضي اللَّه عنه
قال ابن قُتَيبة عن هذا الوجه من تفسير الحروف المقطعة:
( فإنّ كانت أسماء للسور: فهي أعلام تدل علىٰ ما تدل عليه الأسماء من أعيان الأشخاص، وتفرق بينها
فإذا قال القائل: قرأت {المص}، أو قرأت: {ص}، أو {ن}: دل بذاك علىٰ ما قرأ، وإنّ كان قد يقع بعضها مثل -حم- و-الم- لعدة سُوَر، فإنّ الفصل قد يقع بأنّ تقول: حم السجدة، والم البقرة، كما يقع الوفاق في الأسماء فتدل بالإضافات وأسماء الآباء والكنىٰ )
وقال ابن جرير: ( فأمٌا الذين قالوا: {الۤمۤ}، اسم من أسماء القرآن، فلقولهم ذلك وجهان
أحدهما ...
والآخر منهما: أن يكونوا أرادوا أنه اسم من أسماء السورة التي تعرف به كما تعرف سائر الأشياء بأسمائها التي هي لها أمارات تعرف بها )
وهناك تفسيرها بأنها من أسماء اللَّه جل جلاله وصفاته
قال ابن أبي حاتم:
( - ومن فسره علىٰ أنّه اسم من أسماء اللَّه
٤٤ - حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، ثنا يحيىٰ بن عباد، ثنا شعبة، عن السدي قال: بلغني عن ابن عباس أنّه قال: {الم}: اسم من أسماء اللَّه الأعظم
وقال ابن أبي حاتم أيضاً:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، ثنا شُعْبَةُ، قَالَ: سَأَلْتُ السُّدِّيَّ عَنْ قَوْلِهِ: ”الْم حمم طسم“، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمُ )
أقول: هذا ثابت عن السدي
وقال ابن أبي حاتم أيضاً:
( ٤٧ - حدثنا علي بن الحسين، ثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة قالا: ثنا سويد بن عمرو، عن أبي عوانة، عن إسماعيل بن سالم، عن عامر أنه سُئِل عن: الم، والر، وحم، وص
قال: هي اسم من أسماء اللَّه مقطعة بالهجاء، فإذا وصلتها كانت اسماً من أسماء اللَّه )
أقول: هو عامر هو ابن شراحيل الشعبي الفقيه المعروف، والإسناد إليه صحيح
وقال ابن أبي حاتم:
( ١٠١٨٦ - حدثنا علي بن الحسين، ثنا هدية بن عبد الوهاب ثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة عن ابن عباس، الر: حروف الرحمن مفرقة )
وهذا إسناد صحيح لابن عباس رضي اللَّه عنهما
قال ابنُ قُتَيبة عن هذا الوجه من تأويل الحروف المقطعة:
( وإنّ كان حروفاً مأخوذة من صفات اللَّه، فهذا فن من اختصار العرب، وقلما تفعل العرب شيئاً في الكلام المتصل الكثير إلّا فعلت مثله في الحرف الواحد المنقطع
فكما يستعيرون الكلمة فيضعونها مكان الكلمة لتقارب ما بينهما، أو لأن إحداهما سبب للأخرىٰ
فيقولون للمطر: سماء، لأنه من المساء ينزل، ويقولون: ما به طِرْق أي ما به قوة، وأصل الطِّرْق: الشحم، فيستعيرونه مكان القوة لأن القوة تكون عنه
كذلك يستعيرون الحرف في الكلمة مكان الحرف فيقولون: مدهته، بمعنىٰ: مدحته، لأنّ الحاء والهاء يخرجان جميعاً من مخرج واحد، ويقولون: هرقت الماء وأهربته، ولسِق ولصِق
وكما يقلبون الكلام ويقدمون ما سبيله أنّ يؤخر، ويؤخرون ما سبيله أنّ يقدم
وكذلك يقدمون الحرف في الكلمة وسبيله التّأخِير، ويؤخرون الحرف وسبيله التقديم، فيقولون: جذب وجبذ، وبئر عميقة ومعيقة
وكما يزيدون في الكلام الكلمة والمعنىٰ طرحها كقول الشاعر:
فما ألومُ البِيضَ ألا تسخَرَا / يريد أن تسخر
كذلك يزيدون في الكلمة الحرف، كما قال المفضل العبدي:
وبعضهم على بعض حنيق / أي حنق
وكما يحذفون من الكلام البعض إذا كان فيما أبقوا دليلٌ علىٰ ما ألقوا، فيقولون أتانا فلان عند مغيب الشمس أو حين، أي حين كادت تغيب
وقال اللَّه تعالىٰ: {ولو أن قرءانا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى}، أراد: لكان هذا القرآن، فحذف
وكذلك يحذفون من الكلمة الحرف والشطر والأكثر، ويبقون البعض والشطر والحرف، يوحون به ويومئون، يقولون:
لم يك، فيحذفون النون مع حذفهم الواو لاجتماع الساكنين، ويقولون: لم أُبلِ يريدون: لم أبال، ويقولون:
ولاك افعل كذا، يريدون: ولكن، وأنشد الفراء:
قلت لها: قفي، فقالت لي: قاف / أراد فقالت: قد وقفت، فأومأت بالقاف إلىٰ معنىٰ الوقوف
ولم نزل نسمع علىٰ ألسنة الناس: الألف: آلاء اللَّه، والباء: بهاه اللَّه، والجيم:
جمال اللَّه، والميم: مجد اللَّه، فكأنا إذا قلنا: {حم}: دللنا بالحاء على حليم، ودللنا بالميم علىٰ مجيد
وهذا تمثيل أردت أن أريك به مكان الإمكان، وعلىٰ هذا سائر الحروف )
وقال ابن جرير:
( وأمّا الذين قالوا: ذلك حروف مقطعة بعضها من أسماء اللَّه عزّ وجل، وبعضها من صفاته، ولكل حرف من ذلك معنىً غير معنىٰ الحرف الآخر
فإنّهم نحوا بتأويلهم ذلك نحو قول الشاعر:
قُلْنا لَهَا قِفِيِ لنا قالَتْ قافْ ... لا تَحْسبِي أنَّا نَسِينا الإيجَافْ
يعني بقوله: قالت قاف: قالت قد وقفت، فدلّت بإظهار القاف من وقفت علىٰ مرادها من تمام الكلمة التي هي: وقفت، فصرفوا قوله: {الۤمٓ}:
وما أشبه ذلك إلىٰ نحو هذا المعنىٰ، فقال بعضهم: الألف ألف: أنا، واللام للام: اللَّه، والميم ميم: أعلم، وكل حرف منها دال علىٰ كلمة تامة، قالوا: فجملة هذه الحروف المقطعة إذا ظهر مع كل حرف منهن تمام حروف الكلمة: أنا اللَّه أعلم
قالوا: كذلك سائر جميع ما في أوائل سور القرآن من ذلك، فعلىٰ هذا المعنىٰ وبهذا التأويل، قالوا: ومستفيض ظاهر في كلام العرب أن ينقص المتكلم منهم من الكلمة الأحرف إذا كان فيما بقي دلالة علىٰ ما حذف منه، كحذفهم في النقص في الترخيم من حارث الثاء، فيقولون: يا حارِ، وكما قال آخر منهم:
بالخَيْرِ خَيْرَاتٌ وَإِنْ شَرًّا فَا / يريد: فشرًّا
ولا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلاَّ أنْ تَا / يريد: إلّا أن تشاء
فاكتفىٰ بالتاء والفاء في الكلمتين جميعاً من سائر حروفهما، وما أشبه ذلك من الشواهد
قالوا: فكذلك ما نقص من تمام حروف كل كلمة من هذه الكلمات التي ذكرنا أنٌها تتمة حروف: {الۤمۤ}، ونظائرها، نظير ما نقص من الكلام الذي حكيناه عن العرب في أشعارها وكلامها )
وهناك تفسيرها بأنها من باب القسم
قال عبد الرحمن ابن أبي حاتم:
( - ومن فسره علىٰ القسم
٥٢ - حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا ابن علية، عن خالد الحذاء، عن عكرمة: {الم}، قسمٌ )
وقال الطبري:
( حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة قال: {الم}، قسم )
وهذا إسناد صحيح لعكرمة تلميذ ابن عباس رضي اللَّه عنهما
فإن قيل: وما وجه القسم بهذه الحروف؟
قيل: واللَّه العالم ما ذكره ابن جرير الطبري حين تكلم عن هذه الحروف:
( فالتي ابتدئ أوائلها بحروف المعجم، أحد معاني أوائلها: أنهن فواتح ما افتتح بهن من سور القرآن ... وهن مما أقسم بهن، لأنّ أحد معانيهن أنهن من حروف أسماء اللَّه تعالىٰ ذكره وصفاته، علىٰ ما قدمنا البيان عنها، ولا شك في صحة معنىٰ القسم باللٌَه وأسمائه وصفاته )
وقال:
( فأما الذين قالوا: {الۤمۤ} اسم من أسماء القرآن، فلقولهم ذلك وجهان: أحدهما أن يكونوا أرادوا أن: {الۤمۤ}، اسم للقرآن كما الفرقان اسم له
وإذا كان معنىٰ قائل ذلك كذلك، كان تأويل قوله: {الۤم * ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ}، علىٰ معنىٰ القسم كأنه قال: والقرآن هذا الكتاب لا ريب فيه )
وذكر الوجه الآخر وهو أن تكون بمعنىٰ اسم للسورة وهذا قد تقدم ذكره
فتأويلها بالقسم وجهه علىٰ التأويل السابق من أنها حروف من من أسماء اللَّه ﷻ وصفاته علىٰ وجه الحذف والاختصار
ولهذا قال ابن قتيبة بعد ذكره لهذا الوجه من التفسير:
( ومن ذهب إلىْ هذا المذهب فلا أراه أراد أيضاً إلّا القسم بصفات اللَّه، فجمع بالحروف المقطعة معاني كثيرة من صفاته، لا إله إلا هو )
وهناك تفسيرها بأنها فواتح للسور
قال عبد الرحمن ابن أبي حاتم:
( - ومن فسره علىٰ فواتح القرآن
٥١ - حدثنا الحسين بن الحسن، ثنا إبراهيم بن عبد اللَّه حاتم الهروي، ثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج: إنها عن مجاهد أنّه قال: {الم}: هي فواتح يفتتح اللَّه بها القرآن )
وقال الطبري:
( وقال بعضهم: هو فواتح يفتح اللَّه بها القرآن
حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد، قال: {الۤمۤ}: فواتح )
أقول: وتفسير مجاهد أخذه ابن جريج وغيره من كتاب القاسم بن أبي بزة فهو صحيح وللَّه الحمد، فالإسناد الأول ماشٍ
وهناك تفسيرها بأنّها حروف مقطعة من أسماء وأفعال معاً
( قال ابن جرير:
وقال بعضهم: هو حروف مقطعة من أسماء وأفعال، كل حرف من ذلك لمعنىً غير معنىٰ الحرف الآخر
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، وحدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا ابن أبي شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحىٰ، عن ابن عباس: {الۤم}
فقال: أنا اللَّه أعلم )
وقال ابن أبي حاتم:
( ٤٣ - حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا وكيع، عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحىٰ، عن ابن عباس: {الم}
قال: أنا اللَّه أعلم
قال أبو محمد: وكذا فسره سعيد بن جبير والضحاك )
أقول: فأما الضحاك بن مزاحم فقد ثبت ذلك عنه، قال ابن أبي حاتم:
( ١٠١٨٥ - حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا أبو أسامة، عن أبي روق، عن الضحاك، {الر}، قال: أنا اللَّه أرىٰ )
وهنالك تفسيرها علىٰ أنها حروف بمعانٍ مختلفة، وهذا قول أعم ممن قصرها علىٰ أسماء اللَّه ﷻ وصفاته
قال ابن أبي حاتم:
( - ومن فسره علىٰ اسم اللَّه وآلائه وبلائه
٤٩ - حدثنا عصام بن رواد بن الجراح العسقلاني، ثنا آدم بن أبي إياس، ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله: {الم}، قال: هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفاً دارت فيها الألسن كلها
ليس منها حرف إلّا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه، وليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم
وقال عيسىٰ بن مريم - ﷺ - وعجب فقال: وأعجب أنّهم ينطقون بأسمائه ويعيشون في رزقه، فكيف يكفرون به؟
فالألف مفتاح اسمه: اللَّه، واللام مفتاح اسمه: لطيف، والميم مفتاح اسمه: مجيد
فالألف آلاء اللَّه، واللام لطف اللَّه، والميم مجد اللَّه فالألف ستة، واللام ثلاثون، والميم أربعون
قال أبو محمد: وروي عن الربيع بن أنس مثل ذلك )
أقول: أبو جعفر هو الرازي وفيه كلام إلا أنه يحتمل بأثر موقوف ما لم يخالف، والأثر في تفسير مقاتل من طريق أبي الهذيل عن أبي جعفر عن أبي العالية مباشرة
وقد روىٰ الطبري الأثر موقوفاً علىٰ الربيع
وعلىٰ أي حال فإن أبا جعفر الرازي قد كان فيه اضطراب فإن كان غلط فوقف الإسناد علىٰ أبي العالية بدلًا من الربيع بن أنس فلا يضر إن شاء اللَّه، لأن غالب تفسير الربيع من جهة أبي العالية وهو مكثر عنه
ووجه هذا التأويل للحروف المقطعة كوجه تأويلها بأسماء اللَّه ﷻ وصفاته
فتكون هذه الأحرف دالة علىٰ كلمات بمعانٍ شتىٰ، فتكون هذه الكلمات من باب الحذف والاختصار فحذف منها ما حذف وبقيت هذه الحروف دالة علىٰ ما أُلقِيَ من الكلام
إلّا أن هذا الوجه أوسع مما سبق، فحسب هذا القول فالحروف المقطعة هي من غير كلمة لا من صفات اللَّه وأسمائه فقط
قال ابن جرير الطبري:
( وأمّا الذين قالوا: كل حرف من: {الۤمۤ}، ونظائرها دالّ علىٰ معانٍ شتىٰ، نحو الذي ذكرنا عن الربيع بن أنس، فإنّهم وجهوا ذلك إللَّه مثل الذي وجهه إليه من قال هو بتأويل: أنا اللَّه أعلم في أنّ كل حرف منه بعض حروف كلمة تامة استُغني بدلالته علىٰ تمامه عن ذكر تمامه
وإن كانوا له مخالفين في كل حرف من ذلك: أهو من الكلمة التي ادّعىٰ أنّه منها قائلو القول الأول، أم من غيرها؟، فقالوا:
بل الألف من: {ألم}، من كلمات شتىٰ، هي دالةٌ علىٰ معاني جميع ذلك وعلىٰ تمامه
قالوا: وإنّما أفرد كل حرف من ذلك، وقصر به عن تمام حروف الكلمة، أن جميع حروف الكلمة لو أظهرت، لم تدل الكلمة التي تظهر - التي بعض هذه الحروف المقطعة بعض لها:
إلّا علىٰ معنى واحد لا علىٰ معنيين وأكثر منهما، قالوا: وإذ كان لا دلالة في ذلك، لو أظهر جميعها، إلٌا علىٰ معناها الذي هو معنىٰ واحد، وكان اللَّه ﷻ قد أراد:
الدلالة بكل حرف منها علىٰ معانٍ كثيرة لشيء واحد لم يجز إلّا أن يفرد الحرف الدال علىٰ تلك المعاني، ليعلم المخاطبون به أنّ اللّه ﷻ لم يقصد قصد معنىً واحد ودلالة علىٰ شيء واحد بما خاطبهم به، وأنّه إنّما قصد الدلالة به علىٰ أشياء كثيرة، قالوا: فالألف من: {الم}
مقتضية معاني كثيرة، منها تمام اسم الرب الذي هو اللَّه، وتمام اسم نعماء اللَّه التي هي آلاء اللَّه، والدلالة علىٰ أجل قوم أنه سنة، إذا كانت الألف في حساب الجمل واحداً )
ويبقىٰ وجه من التأويل وهو تفسيرها بأن المراد بها هو حروف المعجم
قال الطبري:
( وأمّا أهل العربية فإنّهم اختلفوا في معنىٰ ذلك، فقال بعضهم:
هي حروف من حروف المعجم استُغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفاً، كما استغنَىٰ المخبرُ عمن أخبر عنه أنّه في حروف العجم الثماية والعشرين بذكر: - أ ب ت ث - عن ذكر بواقي حروفها التي هي تتمة الثمانية والعشرين )
وقد ذكر ابن قتيبة هذا الوجه ولكنه جعله في باب القسم فقال في تأويل مشكل القرآن:
( وإن كانت أقساماً، فيجوز أن يكون اللَّه ﷻ، أقسم بالحروف المقطعة كلها واقتصر علىٰ ذكر بعضها من ذكر جميعها
فقال: {الم}، وهو يريد جميع الحروف المقطعة، كما يقول القائل: تعلمت: اب ت ث، وهو لا يريد تعلم هذه الأربعة الأحرف دون غيرها من الثمانية والعشرين، ولكنه لما طال أن يذكرها كلها، اجتزأ بذكر بعضها
ولو قال: تعلمت: حاء طاء صاد، لدل أيضاً علىٰ حروف المعجم، كما دل بالقول الأول، إلا أنّ النّاس يدلون بأوائل الأشياء عليها فيقولون: قرأت: الحمد للَّه، يريدون فاتحة الكتاب فيسمونها بأول حرف منها، هذا الأكثر، وربما دلو بغير الأول أيضاً
وإنّما أقسم اللٌَه بحروف المعجم، لشرفها وفضلها، ولأنّها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة، ومباني أسمائه الحسنىٖ وصفاته العلىٰ، وأصول كلام الأمم، بها يتعارفون، ويذكرون اللَّه ويوحدون
ووقع القسم بها في أكثر السور علىٰ القرآن فقال: {الم (١) ذلك الكتاب لا ريب فيه}، كأنّه قال: وحروف المعجم، لهو الكتاب لا ريب فيه )
أقول: وهذا وجه من التأويل فاسد سيبين الطبري فساده فيما يأتي إن شاء اللَّه
والأن لخلاصة الأمر نأتي، قال أبو جعفر الطبري:
( ولكل قول من الأقوال التي قالها الذين وصفنا قولهم في ذلك وجه معروف
والصواب من القول عندي في تأويل مفاتِح السور، التي هي حروف المعجم:
أنّ اللَّه جلّ ثناؤه جعلَها حروفًا مقطَّعة ولم يصِل بعضَها ببعض - فيجعلها كسائر الكلام المتّصِل الحروف –، لأنٌه عز ذكره أراد بلفظِه الدلالةَ بكل حرف منه علىٰ معان كثيرة، لا علىٰ معنىً واحد، كما قال الربيعُ بن أنس، وإن كان الربيع قد اقتصَر به على معانٍ ثلاثةٍ، دون ما زاد عليها
والصوابُ في تأويل ذلك عندي: أنّ كلّ حرف منه يحوي ما قاله الربيع، وما قاله سائر المفسرين غيرُه فيه، سوىٰ ما ذكرتُ من القول عَمَّن ذكرت عنه من أهل العربية:
أنهّ كان يوجِّه تَأوِيلَ ذلك إلى أنّه حروف هجاء، استُغني بذكر ما ذُكر منه في مفاتيح السور، عن ذكر تتمة الثمانية والعشرين حرفًا من حروف المعجم، بتأويل: أن هذه الحروف، ذلك الكتاب، مجموعة، لا ريب فيه:
فإنّه قول خطأ فاسدٌ، لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين وَمن بَعدَهم من الخالفين منْ أهل التفسير والتأويل، فكفىٰ دلالة على خَطئة، شهادةُ الحجة عليه بالخطأ، مع إبطال قائل ذلك قولَه الذي حكيناه عنه إذ صار إلىٰ البيان عن رفع: {ذلك الكتاب}
بقوله مرّة إنّه مرفوعٌ كلّ واحد منهما بصاحبه، ومرة أخرى أنّه مرفوعٌ بالرّاجع من ذكره في قوله: {لا ريب فيه}، ومرة بقوله: {هدى للمتقين}، وذلك تركٌ منه لقوله: إنّ: {الم} رافعةٌ: {ذلك الكتاب} وخروجٌ من القول الذي ادعاء في تأويل: {الم ذلك الكتاب}، وأنّ تأويل ذلك: هذه الحروف ذلك الكتاب
فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن يكون حرف واحد شاملًا الدلالة علىٰ معان كثيرة مختلفة؟
قيل: كما جاز أن تكون كلمة واحدة تشتمل علىٰ معان كثيرة مختلفة، وكذلك قول اللَّه جل ثناؤه: {الم} و: {ألر}، و: {المص}:
وما أشبه ذلك من حروف المعجم التي هي فواتح أوائل السور، كل حرف منها دالٌّ علىٰ معانٍ شتىٰ، شامل جميعها من أسماء اللَّه ﷻ وصفاته ما قاله المفسرون من الأقوال التي ذكرناها عنهم، وهن، مع ذلك فواتح السور، كما قاله من قال ذلك
وليس كون ذلك من حروف أسماء اللَّه جل ثناؤه وصفاته، بمانعها أن تكون للسور فواتح، لأنّ اللَّه جل ثناؤه قد افتتح كثيراً من سور القرآن بالحمد لنفسه والثناء عليها، وكثيراً منها بتمجيدها وتعظيمها، فغير مستحيل أنّ يبتدئ بعض ذلك بالقسم بها
فالتي ابتدئ أوائلها بحروف المعجم، أحد معاني أوائلها: أنهن فواتح ما افتتح بهن من سور القرآن، وهن مما أقسم بهن، لأنّ أحد معانيهن أنّهن من حروف أسماء اللَّه تعالىٰ ذكره وصفاته، علىٰ ما قدمنا البيان عنها، ولا شك في صحة معنىٰ القسم باللٌَه وأسمائه وصفاته، وهن من حروف حساب الجمل، وهن للسور التي افتتحت بهن شعار وأسماء:
فذلك يحوي معاني جميع ما وصفنا، ممّا بينا، من وجوهه، لأنٌ اللَّهَ جل ثناؤه لو أراد بذلك، أو بشيء منه، الدلالة علىٰ معنىّ واحدٍ ممّا يحتمله ذلك، دون سائر المعاني غيره، لأبان ذلك لهم رسول اللَّه ﷺ إبانة غير مشكلة، إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل كتابه علىٰ رسوله ﷺ ليبين لهم ما اختلفوا فيه، وفي تركه ﷺ إبانة ذلك:
أنّه مراد به من وجوه تأويله البعض دون البعض، أوضح الدليل علىٰ أنه مراد به جميع وجوهه التي هو لها
إذ لم يكن مستحيلًا في العقل وجه منها أن يكون من تأويله ومعناه، كما كان غير مستحيل اجتماع المعاني الكثيرة للكلمة الواحدة، باللفظ الواحد، في كلام واحد )
أقول: ويتبقىٰ قول سوء جهول - وهو كذلك واللَّه المستعان -، قد ذكره الطبري ولم يعزوه لأي أحد من أهل العلم المعتبرين
ولم يذكره ابن أبي حاتم مع وسع اطلاعه أصلًا، وبل لم يتواجد في أي من تفاسير السلف المعروفة
وإنّما ابتُدِعَ لاحقاً مناقضاً لمذاهبهم في الحروف المقطعة
وقد قال ابن تيمية في مقدمة التفسير:
( وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلىٰ ما يخالف ذلك كان مخطئاً في ذلك، بل مبتدعاً، وإنْ كان مجتهداً مغفوراً له خطؤه
نحن نعلم أنّ القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأنّهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنّهم أعلم بالحق الذي بعث اللَّه ﷺ، فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعاً )
أقول: ذاك القول للأسف قد قال به بعض من ينتسب للسنة، وبل تجده في بعض مواقع الفتوىٰ واللَّه المستعان
وهو القول الذي أشار له الطبري بقوله:
( وقال بعضهم: لكل كتاب سرّ، وسرّ القرآن فواتحه )
وهذا أقرب شيء لقول المفوضة من أهل التعطيل الذين يزعمون أن في القرآن آيات - آيات الصفات - لا معنىً له معلوم للمخاطب، وفقط اتلها وقل اللَّه أعلم!
وهكذا بعضهم في أمر الحروف المقطعة هذه يقول: اللَّه أعلم
فنقول: لا شك اللَّه أعلم، ولكن هذه كلمة حق أريد بها باطل، فنعم هو جل وعلا أعلم بكتابه كله، ولكنه لم ينزل شيئاً يخاطب به عباده بلا سبيل لمعرفة معناه فهذا عبث لا يقول به عاقل
وكيف يكون عربيًّا ويكون بيانًا للمخاطبين ومحلًا للتدبر والتفكر للمؤمنين والمتقين وهو متضمن لكلام ليس له أي معنىً معلوم عند العرب المخاطبين به فكيف يجتمع هذا وذاك؟!
فاعلم رحمك اللَّه أن هذا القول فاسد وهو مما ينطبق عليه قول الطبري:
( فإنه قول خطأ فاسد، لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين )
وقد قال الطبري وهو يناقش قولًا فاسداً مشابهاً لما ذكرنا قبل قليل:
( وكان اللَّه جل ثناؤه إنّما خاطبهم بما خاطبهم من القرآن:
بما يعرفون من لغاتهم، ويستعملون بينهم من منطقهم، في جميع آيه: فلا شك أن سبيل ما وصفنا من حروف المعجم، التي افتتحت بها أوائل السور، التي هن لها فواتح، سبيل سائر القرآن، في أنه لم يعدل بها عن لغاتهم التي كانوا بها عارفين، ولها بينهم في منطقهم مستعملين
لأن ذلك لو كان معدولًا به عن سبيل لغاتهم ومنطقهم، كان خارجاً عن معنىٰ الإبانة التي وصف اللَّه ﷻ بها القرآن، فقال تعالى ذكره:
{نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين}
وأنىٰ يكون مبيناً ما لا يعقله ولا يفقهه أحد من العالمين، في قول قائل هذه المقالة، ولا يعرف في منطق أحد من المخلوقين، في قوله؟
وفي إخبار اللَّه جل ثناؤه عنه أنّه عربي مبين، ما يكذب هذه المقالة، وينبئ عنه أنّ العرب كانوا به عالمين
والوجه الثاني من خطئه في ذلك:
إضافته إلىٰ اللَّه أنّه خاطب عباده بما لا فائدة لهم فيه ولا معنىٰ له من الكلام الذي سواء الخطاب فيه به وترك الخطاب به
وذلك إضافة العبث الذي هو منفي في قول جميع الموحدين عن اللَّه تعالىٰ ذكره )
وقال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن:
( ولم ينزل اللَّه شيئاً من القرآن إلا لينفع به عباده، ويدل به على معنىٰ أراده
فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزمنا للطّاعن مقال، وتعلّق علينا بعلّة
وهل يجوز لأحد أن يقول: إنّ رسول اللَّه ﷺ ، لم يكن يعرف المتشابه؟!
وإذا جاز أن يعرفه مع قوله: {ولا يعلم تأويله إلا اللّٰه}، جاز أنّ يعرفه الربانيون من صحابته، فقد علَّم عليًّا التفسير، ودعا لابن عباس، فقال: (الّلهم علمه التأويل وفقهه في الدين)
وبعد: فإنا لم نر المفسرين توقّفوا عن شيء من القرآن فقالوا: هذا متشابه لا يعلمه إلا اللَّه، بل أمرّوه كلّه علىٰ التفسير، حتىٰ فسروا الحروف المقطّعة في أوائل السّور، مثل: الر، وحم، وطه، وأشباه ذلك، وسترىٰ ذلك في الحروف المشكلة، إن شاء اللَّه )
وقد رُوي عن السلف أن المتشابه هو المنسوخ أو ما لا يُعمَل به، وقيل: هو ما المختلف الذي يحتمل أوجهًا - وهذا قول الإمام أحمد كما في مسائل ابن هانئ -
وقيل وهو قول مجاهد كما صح عنه أن المتشابه ما أشبه بعضه بعضًا في المعنىٰ واختلف ظاهرًا في اللفظ
قال مجاهد: (المحكم ما فيه من الحلال والحرام وما سوىٰ ذلك فهو متشابه يصدق بعضه بعضًا)
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ”والمتشابه ذكر موسىٰ فـي أمكنة كثيرة، وهو متشابه، وهو كله معنىٰ واحد ومتشابه: (اسْلُكْ فِيهَا)، (احْمِلْ فِيهَا), (اسْلُكْ يَدَكَ)، (أدْخُلِ يَدَكَ)، (حَيَّةٌ تَسْعَى)، (ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ)”
يريد أن اللفظ والحروف مختلفة والمعنىٰ متفق، فهذا هو المتشابه
وقيل: هو ما لا يعلمه إلا اللَّه
وتلك التفاسير المذكورة لا تتناقض، فإن أصل التشابه أن يشبه الشيءُ الشيءَ، وهما مع ذلك مختلفان
قال تعالىٰ عن ثمار أهل الجنة: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقًا قالوا هذا الذي رزقنا به من قبل وأتوا به متشابهًا)
أي أتوا به مختلفًا في المطعم متفقًا في المظهر، ولهذا قالوا: (هذا الذي رزقنا من قبل)
والمتشابه أيضًا هو كل ما غَمُض ودق، وأصل ذلك أن يغمُض الشيء ويَصعُب وهو مع ذلك معلوم الأساس
فمن قال؛ إنه اتفاق المعنىٰ واختلاف اللفظ، فقد أصاب فهذا معنىٰ التشابه
ومن قال: هو ما احتمل أوجهًا، فقد أصاب لأن هذا معنىٰ المتشابه أنه دقيق أو غامض فيحتمل أوجهًا ومرة يكون كذا ومرة كذا كما قال الإمام أحمد
ومن قال: هو المنسوخ وما لا يُعمَل به، فقد أصاب لأن المنسوخ متشابه يشبه الآيات المحكمة في الإيمان به وتلاوته ويخالفها في العمل به
ومن قال: هو ما لا يعلم تأويله إلا اللَّه وجعل الراسخين ممن لا يعلمونه، فقد أصاب لأنه أراد أن المتشابه ما فيه ذكر أحاديث أتية وأوقات جائية كالقيام من القبور والنفخ في الصور وما أشبه ذلك مما هو متشابه غامض علىٰ الخلق في حينه وموعده وحقيقته
قال الطبري:
( وأن منه ما لا يعلم تأويله إلا اللَّه الواحد القهار. وذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة، وأوقات آتية، كوقت قيام الساعة، والنفخ في الصور، ونزول عيسىٰ بن مريم، وما أشبه ذلك: فإن تلك أوقات لا يعلم أحد حدودها، ولا يعرف أحد من تأويلها إلا الخبر بأشراطها، لاستئثار اللَّه بعلم ذلك علىٰ خلقه )
أقول: فإذا كان اللَّه تعالىٰ هو من يعلمه فهي علىٰ غيره متشابهة غامضة لا يعلمها، فصح علىٰ هذا الوجه أن يقال: إنها المتشابه الذي ذكره تعالىٰ
فليس إذًا المراد أن هناك كلامًا في القرآن لا يُفهَم منه معنىً، وهذا ما قال به أحد من السلف حتىٰ من قال منهم إن المتشابه لا يعلم معناه
قال أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن:
” وحدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به}، قال: الراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به
وفي غير قول مجاهد قال: انتهىٰ علمهم إلىٰ أن قالوا {آمنا به كل من عند ربنا} ”
هذا سند صحيح فرواية ابن جريج من كتاب القاسم بن أبي بزة
وقول مجاهد له وجهه وقول غيره له وجهه، وليس أحد من السلف قائل بالقول الذي ذكره ابن قتيبة ورد عليه فليس ثمة خلاف تضاد بحمد اللَّه
فالمتشابه بمعنىٰ ما غمض ودق أو ما شابه الشيء وهو مغاير له مع ذلك لفظ عام يدخل فيه غير نوع وشيء
فذكر كل واحد من السلف نوعًا داخلًا في عموم لفظ المتشابه، وبناءّ علىٰ ذلك قالوا: إن الراسخين في العلم لا يعلمونه أو يعلمونه
فصار الخلاف في علم الراسخين به خلاف تنوع إذ هو تبع الخلاف في المتشابه خلافَ تنوعٍ
ونسبة ذاك القول الفاسد للخلفاء والصحابة باطلة فأنىٰ يكون قولًا لهم ولا يُذكَر عند أهل التفسير المتقدمين من السلف ولا يُعرَف ولا يشتهر عند الناس؟
والعجب لأصحاب موقع إسلام ويب الذي يذهب إليه عوام الناس ويأتمنون أصحاب هذا الموقع علىٰ أمور دينهم فتجدهم بلا أدنىٰ ورع ينسبون هذا القول العبثي لأجلة الصحابة بناءً علىٰ قول القرطبي المتأخر!
ومن ينسب ذلك القول للخلفاء الراشدين كما فعل الدكتور حكمت بشير فقد غلط غلطًا قبيحًا
وليس أنه لم يرد تفسير من الخلفاء لها يعني أنهم بذاك القول قائلين، فلا يُقَال إن كل آية غَمُضت ولم يرد في تفسيرها شيء عنهم فإنهم يقولون بأنها سر القرآن!
وقد ثبت عن ابن عباس تفسيرها، ومثله لا يقول بالاجتهاد في باب التفسير بل كان يتوقىٰ ذلك، فتفسيره قيم ومأخوذ عن الصحابة ولا يبعد أن يكون أخذه عن عمر فقد تتلمذ عليه
قال الطبري في تفسيره:
” ٩٨- حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن أبي مُليكة: أن ابن عباس سُئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبىٰ أن يقول فيها ”
هذا إسناد صحيح
وثبت تفسير الحروف المقطعة عن جماعة من التابعين من أمثال الشعبي وغيره، والشعبي تفسيره قيم لأنه لا يقول بالاجتهاد بل كان يتوقىٰ ذلك وما من آية إلا وعنده عنها أثر
قال يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ:
” حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ قَالَ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: ثنا شعبة عن عبد الله ابن أَبِي السَّفَرِ قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَاللَّهِ مَا مِنْ آيَةٍ إِلَّا قَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا وَلَكِنَّهَا لَرِوَايَةٌ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ- أَوْ قَالَ علىٰ اللَّه عز وجل ”
أقول: وإذا كانت حاله كذلك فلا يبعد أن تفسيره للحروف المقطعة من صحابي أدركه أو تابعي أخذ عن الصحابة
والصحابة يأخذ صغيرهم عن كبيرهم خصوصًا الخلفاء الراشدين الذي يقتدون بهم علمًا وعملًا
هذا وقد نُسِبَ ذاك القول الفارغ لأئمة الإسلام كالثوري والشعبي وأبو حاتم وغيرهم كما نسب للخلفاء، وهذا باطل
فالثوري في تفسيره يسند في تفسير الحروف المقطعة، وكذلك أبو حاتم يروي بإسناد تفسيراً للحروف المقطعة كما في تفسير ابنه عنه
فكيف هم يؤمنون بأنها مما لا يعلمه إلا اللَّه وأنها سر القرآن ثم يفعلون هذا
وكذلك الشعبي فقد ثبت عنه ما سبق ذكره
هذا وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد
تعليقات
إرسال تعليق