هل يوصف الملائكة بالذكورة؟

بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:

قال ابن جريرٍ الطبري في تفسيره:

( ١٤٧٠٨ - حدثنا ابن عبد الأعلىٰ قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت عمران قال: قلت لأبي مجلز: يقول اللَّه: (وعلىٰ الأعراف رجال)

وتزعم أنت أنّهم الملائكة؟، قال فقال: إنّهم ذكور، وليسوا بإناث )

وهذا إسناد صحيح للتابعي أبي مجلز لاحق بن حميد السدوسي وقد سمع ابن عمر وابن عباس وأنس رضي اللَّه عنهم، وقوله أنهم ذكور مما لا مجال لتأويله بخلاف وصف الذكورة

قال سعيد بن منصور في تفسيره:

( ٩٥٨ - نا معتمر بن سليمان التيمي، عن أبيه، قال: أنبأني أبو مجلز في قوله عز وجل: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم)

قال: الأعراف مكان مرتفع عليه رجال من الملائكة يعرفون أهل الجنة بسيماهم وأهل النار بسيماهم )

وهذا إسناد صحيح

قال ابن أبي حاتم في تفسيره:

( ٨٥٠٧ - حدثنا أبي، ثنا عبد اللَّه بن مروان أبو شيخ الحراني، ثنا زهير بن معاوية، ثنا سليمان التيمي، عن أبي مجلز: (وعلىٰ الأعراف رجال)

قال: وهم رجال من الملائكة يعرفون الفريقين جميعاً أهل النار وأهل الجنة، قال: وهذا قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة )

وهذا إسناد صحيح أيضاً

قال ابن جرير الطبري: 

( ١٤٧٠٧- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي مجلز قوله: (وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم)

قال: هم رجال من الملائكة، يعرفون أهل الجنة وأهل النار )

أقول: الإسناد لابن علية إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الإمام صحيح 

وممّن رأيته يثبت ذلك القول الرازي في تفسيره، والفراء في كتابه معاني القرآن

قال في معاني القرآن:

( قَولُه: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ المعَقِّباتُ): المَلائِكةُ.. والمعَقِّباتُ: ذُكرانٌ إلَّا أنَّه جميعُ جَمعِ مَلائِكةٍ مُعَقِّبةٍ، ثم جُمِعَت مُعَقِّبة، كما قال: أبْناواتُ سَعدٍ، ورجالاتٌ جمعُ رِجالٍ، ثمَّ قال عَزَّ وجَلَّ: (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)، فرجع إلىٰ التذكيرِ الذي أخبَرْتُك، وهو المعنىٰ )

وقد قال ابن تيمية في مجموع الفتاوىٰ / ١٥٥:

( وهذا الذي قالوه له معنىٰ صحيح وهو قول الفراء وأمثاله، لكن لم يقله أحد من مفسري السلف

ولهذا كان أحمد بن حنبل ينكر علىٰ الفراء وأمثاله ما ينكره ويقول: كنت أحسب الفراء رجلًا صالحًا حتىٰ رأيت كتابه في معاني القرآن )

هذا وقوله بذكورة الملائكة قد وافق القول المروي عن السلف في الباب

وقال الشيخ أبو جعفر الخليفي في تقويم المعاصرين:

( وقول أبي مجلز في أهل الأعراف خالفه عامة الصحابة والتابعين وإنما البحث في وصفه للملائكة بالذكورية فلا يؤتى باعتراض الطبري عليه في أهل الأعراف وينزل على الوصف بالذكورية )

وبعد هذا فلا يجوز القول بتفسيق ولا تبديع من يثبت وصف الذكورة، فقد قال به أحد التابعين جزماً ولا أعلم له معارضاً

ورواية الأئمة لقيله بغير نكير وهم لا يروون المنكر دليل علىٰ وقوع المعنىٰ وصحته عندهم

فإن قيل: قد يكون قوله إسرائيلية؟

قيل: هذا الذي قال به أبو مجلز حجة ولا يجوز أن يكون من الإسرائيليات لأنه يتكلم جازمًا مصدقًا بأمر لا مدخل لاجتهاد ولا رأي فيه 

والإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب لا يجوز أن نجزم بها مصدقين، كيف ذلك ونحن منهيون عن تصديق أهل الكتاب؟

قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث بعد ذكره لأثر عن ابن عباس: (الجان مسيخ الجن، كما مسخت القردة من بني إسرائيل):

( وهذه أمور لا تدرك بالنظر والقياس

وإنما يُنتَهىٰ فيها إلىٰ ما قاله الرسول ﷺ أو ما قاله من سمع منه وشاهده: فإنهم لا يقضون علىٰ مثله إلا بسماع منه، أو بسماع ممن سمعه )

وقال ابن تيمية في مقدمة التّفسير:

( ومع جزم الصاحب فيما يقوله، فكيف يقال: إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم؟ )

وهذا كله ينطبق علىٰ قول التابعي

وقد قال ابن قُتَيبة في تأويل مختلف الحديث:

( قد تتابعت الروايات عن النبي ﷺ من جهات كثيرة، بنقل الثقات أنّه كان يتعوذ باللَّه من عذاب القبر

منها حديث حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد اللَّه بن عباس قال:

إن أحدكم ليجلس في قبره إجلاساً، فيقال له: من أنت؟ فيقول: أنا عبد اللَّه حيًّا وميتّا، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقال له: صدقت، فيفسح له في قبره ما شاء اللَّه، ويرى مكانه من الجنة 

وأما الآخر، فيقال له: من أنت؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دريت، فيضيق عليه قبره حتىٖ تختلف أضلاعه

وهذا مما لا يعمله إلا نبي، ولم يكن عبد اللَّه ليحكيه إلا وقد سمعه من رسول اللَّه ﷺ )

أقول: فأين هذا ممن يرد بعض آثار الصحابة في أبواب أجل وأعظم كباب الصفات بدعوىٰ الإسرائيلية مع أن الصحابة يقضون بالأمر ويتكلمون جازمين معتقدين؟

وقد دل كلام ابن قتيبة وعدم معارضة السلف لأي أثر عن صحابي أو تابعي بتلك الدعوىٰ وتسليمهم علىٰ أن ذلك المنهج محدث

وقد جاء في السنة لعبد اللَّه بن أحمد في رسالة الإمام أحمد إلىٰ المتوكل:

( وقد رويٰ عن غير واحد ممن مضى من سلفنا رحمهم اللَّه أنهم كانوا يقولون: القرآن كلام اللَّه عز وجل وليس بمخلوق 

وهو الذي أذهب إليه ولست بصاحب كلام ولا أرىٰ الكلام في شيء من هذا إلا ما كان في كتاب اللَّه عز وجل أو في حديث عن النبي ﷺ أو عن أصحابه أو عن التابعين، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود )

فهذا الكلام الأخير ذكر فيه التابعين

وإذا كان أهل السنة يثبتون صفات بأثار عن التابعين فما دون ذلك من أمور الغيب من باب أولىٰ وأحرىٰ كذلك

ويبقىٰ أن يُقَال: إن نفي وصف الذكروة عن الملائكة جزماً وتنزيههم عنه باطل، وهذا بخلاف من لم يثبت ذلك فقط فتوقف لإنعدام الدليل عنده

فالأول لا يصح وإن لم يرد في الإثبات شيء، لأن الواجب التوقف حتىٰ يأتي دليل ينفي أو يثبت، فالغيب المحض ولا نفي فيه ولا إثبات إلا بدليل

ونفي الذكورة قد قال به علي ملا قاري ولا يتابع عليه

فهذا وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخلاف في صفة الهرولة...

دلالة الحس علىٰ الخالق وصفاته وأفعاله...

هل تثبت صفة البشبشة؟