التساهل في آثار الضعفاء...
بسم اللَّه والصلاة علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:
فهذا بيان لمنهج المتقدمين في آثار الضعفاء فيما رووه عن مشيختهم المباشرين، وما أسندوه من الأسانيد القصار التي لم يصلوا فيها
قال ابن عدي في الكامل:
( حَدَّثَنَا علي بن أحمد، حَدَّثَنا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ سَمِعْتُ يَحْيىٓ بن مَعِين يقول: أبو مَعْشَر المديني ضعيف يكتب من حديثه الرقاق وكان رجلًا أميّّا يتقى إذ يروي من حديثه المسند
أخبرنا أبو نعيم الحافظ، حَدَّثَنَا مُوسَىٰ بْن إِبْرَاهِيمَ بْن النَّضْر الْعَطَّار، حدّثنا محمّد ابن عُثْمَان بن أَبِي شَيْبَة قَالَ: وسألت عَليّ بن عبد اللَّه بن المَدينِي عن أَبِي معشر الْمَدَنِيّ، فَقَالَ:
كانَ ذاك شيخًا ضعيفًا ضعيفًا، وَكَانَ يحدث عن مُحَمَّد بن قيس، ويحدث عن مُحَمَّد بن كعب بأحاديث صالحة، وَكَانَ يحدث عن المَقْبُرِي، وعن نافع بأحاديث منكرة )
موسىٰ بن إبراهيم بن النضر هذا قد روىٰ عنه أبو نعيم غير مرة
وقد قال أبو نعيم في أخر كتاب الضعفاء: ( فجملة من سميته في هذا الفصل بروايته للمناكير وللموضوعات والأباطيل وذكرته بضعف فإن أمرهم لا يخفى على علماء أهل هذه الصنعة فإن النور في رواياتهم مفقود والظلمة في أكثر حديثهم موجود
وإني وإن ذكرت اسم الواقعين فيهم والواضعين منهم فلم أذكرهم لأني كنت لهم مقلدا بل ذكرتهم إعلاما لجرح منهم قد تقدم لهم فعامة ما نسبته إلىٰ علي بن عبد اللَّه فإني سمعته من موسى بن إبراهيم بن النضر العطار البغداذي عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة عنه )
أقول: ما اعتمد أبو نعيم ابن النضر في نسبة ما نسب إلىٰ علي بن المديني إلا وهو عنده مؤتمن ومُعدَّل
والشاهد مما أوردت قول يحيىٰ بن معين: يتقىٰ من حديثه المسند، ومفهوم هذا أنه إن لم يُسنِد، وروىٰ عن مشيخته المباشرين، فهو محتمل يعني بالأصل
ولهذا قال ابن المديني أنه يروي عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس وهما شيخاه المباشران أحاديث صالحة يعني أنه محتمل بمثل هذا وإن كان بالأصل سيئًا في حفظه وضعيفًا
قال الخطيب البغدادي في تاريخه:
( أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن الْقَطَّان، أخبرنا عُثْمَان بن أحمد الدّقّاق، حدّثنا سهل بن أحمد الواسطيّ، حدثنا أبو حفص عمرو بن علي قال:
وَأَبُو معشر ضعيف. ما رَوَىٰ عن مُحَمَّد بن قيس، وَمُحَمَّد بن كعب ومشايخه، فَهُوَ صالح. وما رَوَى عن المَقْبُرِي، وهشام بن عروة، ونافع، وابن المنكدر. فهي ردية لا تكتب )
وهذا إسناد صحيح لعمرو بن علي وهو الفلاس
وقال صالح بن الإمام أحمد في سيرة أبيه والنقل مستفاد:
( وَاجْتمعت عَلَيْهِ أوجاع الْحصْر وَغير ذَلِك وَلم يزل عقله ثَابتًا وَهُوَ فِي خلال ذَلِك يَقُول كم الْيَوْم في الشَّهْر فَأخْبرهُ وَكنت أَنَام بِاللَّيْلِ إِلَىٰ جنبه فَإِذا أَرَادَ حَاجَة حركني فأناوله
وَقَالَ لي: جئني بِالْكتاب الَّذِي فِيهِ حَدِيث ابْن إِدْرِيس عَن لَيْث عن طَاوُوس أَنه كَانَ يكره الانين فَقَرَأته عَلَيْهِ فَلم يَئِن إِلَّا فِي اللَّيْلَة التِي توفّي فِيهَا )
ليث بن أبي سليم ضعيف، وقد احتمله أحمد في أثر مباشر عن شيخه
قال ابن رجب في شرح علل الترمذي:
( قال يزيد بن الهيثم عن يحيىٰ بن معين: اكتبوا عن أبي معشر حديث محمد بن كعب في التفسير، وأما أحاديث نافع وغيرها فليس بشيء، التفسير حسن يعني ما يرويه عن محمد بن كعب القرظي في تفسير القرآن، وغالبه أو جميعه من كلامه غير مرفوع
نقل البرذعي، عن أبي زرعة، قال: عبد الجبار بن عمر واهي الحديث وأمّا مسائله فلا بأس، قال البرذعي: كأنّه يقول حديثه واهٍ ومسائله مستقيمة، يعني ما روى من المسائل عن ربيعة وغيره. )
قال العقيلي في الضعفاء:
( حدثنا عبد اللَّه بن أحمد: سمعت أبي يقول:
صدقة السمين شامي، يروي عنه الوليد بن مسلم، ليس بشيء، ضعيف الحديث، أحاديثه مناكير ، ليس يسوى حديثه شيئاً، وما كان من حديثه مرسلًا عن مكحول، فهو أسهل، وهو ضعيف جدًّا )
قال عبد اللَّه بن أحمد في العلل:
( سمعته يقول: إسماعيل بن مسلم المكي ما روى عن الحسن في القراءات، فأما إذا جاء إلى المسندة التي مثل حديث عمرو ابن دينار يسند عنه أحاديث مناكير ليس أراه بشيء، وكان ضعفه، ويُسند، عن الحسن عن سَمُرة أحاديثَ مناكير )
فاحتمله فيما يروي عن الحسن البصري من القراءات مع قوله عنه كما في الجرح والتعديل: منكر الحديث، وهذا تضعيف شديد
وإنما هو منكر شديد الضعف فيما أسند، فأما ما سوىٰ ذلك فهو فيه محتمل
وقال الخلال في الوقوف والترجل والنقل مستفاد:
( فَأَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: أرَى أَنْ يُدْفَنَ، كانَ ابْنُ عُمَرَ يَدْفِنُ شعْرَهُ إِذَا حَلَقَهُ )
وهذا الأثر من رواية عبد اللَّه العمري، عن نافع، عن ابن عمر
وهذا العمري ضعيف، ومع ذلك احتمله في أثر موقوف قصير سنده
وهذا الأمر الذي ثبَّتهُ قدخالفه غير واحد من المتأخرين
وذلك أنك تجدهم ينقدون الأثار المباشرة والقصيرة كما ينقدون المرفوع أو الأثر الذي في إسناده شيء من الطول، فيضعفونها، فلا مكان لدرجة المقبول عندهم
وهذا ينبغي أن يتنبه المرء له، فيُعلم أن الضعيف بالأصل في مثل تلك الأثار ليس بضعيف، بل هو في درجة المقبول، فما يرويه مقبول يمشي
هذا وبعضهم مع التشدد في تلك الأثار التي هي عن سماع يتعنت بما رواه الراوي عن رؤية مباشرة!، واللَّه المستعان الرؤية أمرها هين
وعلة منهج الأئمة الذي ذكرته هو أن رواية الضعيف المحتمل أو حتىٰ الذي ضعفه شديد لأثر مباشر أو قصير بخلاف الجادة والطريق
وذلك أن الموصول والمرفوع إلىٰ النبي ﷺ جادة بخلاف ما لم يكن كذلك
والجادة والطريق هي الأمور والسلاسل المتكررة المعروفة، التي تطرق الأذهان، وتسبق لها الأوهام، فيغلط بسلوكها الضعفاء
وغالب الأوهام والأخطاء من الضعفاء تكون برفع الحديث أو تجويده أي وصله، فلما يروي الضعف شيئًا قصيرًا سهلًا يخالف الجادة، هذا يجعلنا نطمئن لما رواه
قال ابن رجب:
( قول أبي حاتم: مبارك لزم الطريق
يعني به أن رواية ثابت عن أنس - رضي اللَّه عنه - سلسلة معروفة مشهورة، تسبق إليها الألسنة والأوهام، فيسلكها من قل حفظه، وأبو حاتم كثيراً ما يعلل الأحاديث بمثل هذا، وكذلك غيره من الأئمة )
أقول: وحتىٰ من لم يقل حفظه ولكنه كان يقبل التلقين والإدخال غالبًا ما يكون غلطه بتجويد الحديث أو رفعه أي بجعله علىٰ الجادة
فمثلًا مجالد تلميذ الشعبي كان يتلقن، فيصل الحديث ويرفعه
قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل:
( نا محمد بن حمويه بن الحسن قال: سمعت أبا طالب قال: سألت أحمد بن حنبل عن مجالد، فقال: ليس بشيء يرفع حديثًا كثيرًا لا يرفعه الناس، وقد احتمله الناس )
وقال:
( نا محمد ابن إبراهيم بن شعيب، نا عمرو بن علي الصيرفي قال: سمعت يحيىٰ بن سعيد القطان يقول لعبد اللَّه: أين تذهب قال: أذهب إلى وهب بن جرير اكتب السيرة - يعني عن مجالد، قال تكتب كذبًا كثيرّا لو شئت أن يجعلها لي مجالد كلها عن الشعبي عن مسروق عن عبد اللَّه فعل
أنا أبو بكر بن أبي خيثمة فيما كتب إلي قال: سمعت يحيىٰ بن معين يقول: مجالد ضعيف واهي الحديث، قال أبو بكر : قلت ليحيىٰ بن معين:
كان يحيىٰ بن سعيد القطان يقول: لو أردت ان يرفع لي مجالد حديثه كله رفعه، قال: نعم، قلت ولم يرفع حديثه، قال: لضعفه )
ذكروا في التلقين تجويد السند ورفعه لأن هذا هو الكثير الغالب
وقال عبد اللَّه في العلل: ( سألته عن مجالد؛ فقال: كذا وكذا وحرك يده، ولكنه يزيد في الإسناد )
طيب لو روىٰ عن الشعبي مباشرة قوله وهو شيخه المباشر؟
فمثل هذا بعيد عن التلقين، إذ لو كان قد تلقن، لرفع السند أو وصله، فجعله مثلًا عن مسروق عن عبد اللَّه بن مسعود
هذا الغالب، فهو إذًا يحتمل بمثل ذلك، وهذا معنىٰ قول أحمد: (وقد احتمله الناس)
فهو ليس بضعيف مطلقًا، فما كان محتملًا بالأصل من حديثه لمخالفته الجادة لا يُضعَّف بسببه
قال ابن أبي يعلي في طبقات الحنابلة والنقل مستفاد من الشيخ أبي جعفر جزاه اللَّه خيرًا:
( منها ما رواه أَبُو بكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا قَالَ: قَالَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بْن سلام زرت أَحْمَد بن حنبل فلما دخلت عليه بيته قام فاعتنقني وأجلسني فِي صدر مجلسه
فقلت: يا أبا عَبْد اللَّه أليس يقال: صاحب البيت أو المجلس أحق بصدر بيته أو مجلسه
قَالَ: نعم يقعد ويقعد من يريد
قال: فقلت: فِي نفسي خذ إليك أبا عبيد فائدة، ثم قلت: يا أبا عَبْد اللَّه لو كنت آتيك عَلَى حق ما تستحق لأتيتك كل يوم
فقال: لا تقل ذاك فإن لي إخوانا ما ألقاهم، في كل سنة إلا مرة أنا أوثق فِي مودتهم ممن ألقىٰ كل يوم، قَالَ: قلت: هذه أخرىٰ يا أبا عبيد
فلما أردت القيام قام معي، قلت: لا تفعل يا أبا عَبْد اللَّه، قَالَ: فقال: قَالَ: الشعبي من تمام زيارة الزائر أن يمشي معه إلىٰ باب الدار ويؤخذ بركابه
قَالَ: قلت: يا أبا عَبْد اللَّه من عَنِ الشعبي، قَالَ: ابن أبي زائدة عَنْ مجالد، عَنِ الشعبي
قَالَ: قلت: يا أبا عبيد هذه ثالثة )
فاحتمل أحمد مجالدًا في روايته عن الشعبي قوله
وقد كان شعبة كما قال يحيىٰ بن معين لا يروي تفسير سماك إلا عن عكرمة، فيحتمله في هذا
وذلك أنه لما كان يتلقن، فيصل الحديث إلىٰ ابن عباس، كان ما يرويه عن عكرمة وحده محتملًا، إذ ليس مثله بمحل تلقين
وكذلك الاضطراب وما شابهه يحتمل صاحبه فيما يرويه مما يخالف الجادة
قال الترمذي في العلل:
( وهكذا من تكلم في ابن أبي ليلىٰ، إنما تكلم فيه من قبل حفظه، قال يحيىٰ بن سعيد القطان: روى شعبة عن ابن أبي ليلىٰ عن أبي أيوب عن النبي ﷺ في العطاس
قال يحيىٰ: ثم لقيت ابن أبي ليلىٰ، فحدثنا ابن أبي ليلىٰ عن أخيه عيسىٰ عن عبد الرحمن بن أبي ليلىٰ عن علي عن النبي ﷺ
قال أبو عيسى: وكان يروي الشيء مرة هكذا، ومرة هكذا بغير الإسناد، وإنما جاء هذا من قبل حفظه، وأشذ ما يكون هذا إذا لم يحفظ الإسناد فزاد في الإسناد أو نقص )
فهذا كذاك غير أن ابن أبي ليلىٰ لو روىٰ عن شيخه المباشر قوله، لاحتُمِل له، إذ ليس مثل هذا بموضع اضطراب بالعادة
فالاضطراب يكون عادة في المرفوع والجادة أو في الأسانيد الطوال
وكذلك المختلط تقبل روايته بالأصل فيما يرويه بخلاف الجادة
فالذي قد اختلط عادةً بسبب تغير عقله وخرفه سينسىٰ الأسانيد علىٰ ما هي عليه، فيجعلها مرفوعةّ أو موصولةً، إذ كان ذلك هو الكثير المتكرر الذي يذهب إليه ذهنه
فأما إن جاء بالسند علىٰ الطرق القصار المخالفة للجادة أو روىٰ شيئًا مباشرًا عن شيخ له، فهذه أمارة تدل علىٰ تذكُّره وحفظه
فمثلًا علي بن زيد بن جدعان قد قال عنه شعبة: ( ثنا علي بن زيد بن جدعان وكان رفَّاعًا )
ورفاع صيغة مبالغة من رفع، يعني أنه يرفع الحديث إلىٰ النبي ﷺ كثيرًا، فغالب غلطه إنما هو بالرفع والوصل
ومثلًا الليث بن أبي سليم قد قال ابن حبان عنه: ( وَلَكِن اخْتَلَط فِي آخر عمره حَتَّى كَانَ لَا يدْرِي مَا يحدث بِهِ فَكَانَ يقلب الْأَسَانِيد وَيرْفَع الْمَرَاسِيل )
فذكر غلطه برفع المراسيل، إذ كان ذلك هو الكثير الغالب عليه في حال اختلاطه
هذا وسبب تضعيفه أيضًا أنه كان يجمع بين الشيوخ، فيحكي عنهم الاتفاق وهو لا يشعر
قال ابن سعد في الطبقات:
( وكَانَ ضَعِيفًا فِي الْحَدِيثِ. يُقَالُ: كَانَ يَسْأَلُ عَطَاءً وَطَاوُسًا وَمُجَاهِدًا عَنِ الشَّيْءِ فَيَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَيَرْوِي أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ لِذَلِكَ )
قال عبد اللَّه في العلل:
( ذكر الليث بن أبي سليم، قال: ضعيف الحديث عن طاوس، وإذا جمع طاوس وغيره زيادة هو ضعيف )
قال العجلي في الثقات:
( وقال وحدث ليث بن أبي سليم يومًا، قال: سألت القاسم، وسالمًا، وعطاء، وطاووسًا، وذكر غيرهم، فقال له شعبة: أين اجتمع هؤلاء؟ قال: في عرس أمك )
طيب فإن كان يروي عن شيخه المباشر قوله وحده؟
نقول: هذا أمره هين فيُقبَل منه ما لم يخالف غيره أو يُعرَف لما رواه علة
فهذا الكلام من وجه
ومن وجه آخر يقال: إن رواية الضعفاء والمضطربين والمتلقنين والمختلطين ما لم يكونون متهمين لأثار مباشرة أو قصيرة
هذا أسهل وأقرب للحفظ، ومع قرب الإسناد والمتن لا يعامل الأثر كالمرفوع أو الذي إسناده طويل ومتعب
فالضعيف لن ينشغل بالمتن عن الإسناد أو بالعكس إن كان الأثر الذي يرويه قصيرًا سهلًا، فهمته علىٰ الأثنين مصبوبة، وهذا يقلل الغلط ويبعده
قال الإمام مسلم في التمييز:
( ومنهم من همته حفظ المتون دون الأحاديث فيتهاون بحفظ الأثر يتخرصها من بعد فيحيلها بالتوهم علىٰ قوم غير الذين أدي اليه عنهم )
أقول: ما ذكره مسلم رحمه اللَّه بعيد في حال رواية الضعيف أثارًا بخلاف الجادة إذ مثل هذا لا ينشغل فيه بالمتن عن السند أو العكس
واللَّه العالم، وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد
تعليقات
إرسال تعليق