قاعدة فيمن لا يروي إلا عن ثقة وغير ذلك..
بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:
فإنّ عددًا من أهل النقد من الرواة يعدلون بالرواية ويجرحون بتركها
وذاك لانتقاءهم وانتقادهم في الشيوخ، وهؤلاء هم الذين قيل عنهم: إنهم لا يروون إلا عن ثقة وما شابه هذا
ومثل هذا الأمر من أنفع ما يكون في إزالة جهالة الحال أو العين
وهذا لا ينبغي أن يغفل عنه المحققون إذا ما رأوا رجلًا مجهولًا إذ ليس التعديل بمحصور بالكلام بل قد يكون بغيره
فالتعديل قد يكون برواية رجل ناقد متحرٍ أو باحتجاج إمام ناقد بحديث المحدث أو بتصحيحه له
ونحن الآن لدينا الأصل وهو أن الراوي الفلاني لا يروي إلا عن ثقة فروايته تعديل، فسنأخذ عامرًا الشعبي كمثال
قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل:
” أنا أبو بكر بن أبي خيثمة فيما كتب إلي، قال سمعت يحيىٰ بن معين يقول: إذا حدث الشعبي عن رجل فسماه فهو ثقة يحتج بحديثه “
طيب فأتينا في أحدىٰ المرات لراوٍ روىٰ عنه الشعبي المتحري الناقد في شيوخه فوجدناه ضعيفًا ومتروكًا مثلًا الحارث الأعور
فقد روىٰ عنه الشعبي فسماه وقال: وكان كذابًا
وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل:
” أنا ابن أبي خيثمة فيما كتب إلي قال: قيل ليحيىٰ بن معين: الحارث صاحب علي؟، فقال: ضعيف “
فهل ما ذكرت يعد قدحًا في الأصل يعني هل نقول: إذًا الشعبي لا يعدل بالرواية عمن سماه، ولا يصح القول بأنه لا يروي إلا عن ثقة؟
والجواب: لا
وذاك أن المعارض إما أن يدفع الأصل ويعارضه كله وإما أن يدفع طرد الأصل ويعارضه في المثال المعين
والنوع الثاني هو الذي تحقق إذ عارض انتقاء الشعبي تنبيهه عن حال الحارث الذي روىٰ عنه بقوله: إنه كذاب
وهذا معارض دفع طرد الأصل لا غير، وكذلك معارضة انتقاء الناقد بتجريح أهل النقد للراوي المعين هذا إنما يعني إنتفاء طرد الأصل لا إنتفاءه كله
وبعضهم لا يفهم الأمر علىٰ وجهه، فيجمع بين ما افترق منه ولا يميز بين ما اختلف منه
فيجعل ما عارض الأصل بكليته كالذي عارض الأصل بطرده، وهذا غلط
ولهذا ففي مثالنا مثلًا لم يغفل ابن معين عن الحارث ومع ذلك قال بما قال، ولا تناقض إذ هو إنما ثبَّت الأصل والأساس، فإن عُرض بما عارض طرده فهو مُثبَّت غير زائل ولا مدفوع
ولهذا الكلام كله فقول ابن رجب رحمه اللَّه في شرح علل الترمذي:
” ما ذكره الترمذي - رحمه اللَّه - يتضمن مسائل من علم الحديث
أحدها - أن رواية الثقة عن رجل لا تدل علىٰ توثيقه، فإن كثيرًا من الثقات رووا عن الضعفاء، كسفيان الثوري وشعبة وغيرهما
وكان شعبة يقول: لو لم أحدثكم إلا عن الثقات لم أحدثكم إلّا عن نفر يسير.
قال يحيى القطان: إن لم أرو إلا عمن أرضىٰ ما رويت عن خمسة، أو نحو ذلك “
لا وجه لإيراده إذ شعبة من أهل الانتقاء والنقد، والأصل بروايته أنها تعديل، ولا يزيل هذا معارض ثبَّت لنا ترك طرد الأصل لا ترك الأصل نفسه
وإنّما مراده بتلك العبارة الثقات الكبار الذين هم في أعلىٰ الدرجات لا مطلق الثقات، فإن في شيوخه عددًا كثيرًا من الثقات
قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل:
”سمعت أبي يقول، إذا رأيت شعبة يحدث عن رجل فأعلم أنه ثقة إلا نفرا بأعيانهم”
فلم يجعل الاستثناء في انتقاءه دافعًا له كله بل ثبته بقوله: ( فأعلم أنه ثقة )
وقال أحمد بن محمد بن أبي بكر المقدمي في كتاب التاريخ وأسماء المحدثين وكناهم:
” حدثنا أبي قال: حدثنا علي بن المديني، عن قرة بن سليمان قال: قال لي مالك بن أنس: شعبتكم يشدّد في الرجال ويروي عن عاصم بن عبيد اللَّه “
ولا يعلُ هذا بضعف قرة بن سليمان لأنّه يروي قول شيخ المباشر، وهذا بخلاف الرواية المسندة، فهذا يحتمل بالأصل
والآثر يدل علىٰ انتقاء شعبة بالأصل في شيوخه، ومالك رحمه اللَّه أثبت تشدده ولم ينفه كله لكونه روىٰ عن عاصم وهو مجروح من أهل النقد وضعيف عندهم
قال ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل:
” ٧٠ - حدثنا عبد الرحمن قال: قُرِئَ علىٰ العباس بن محمد الدوري قال: سمعت يحيىٰ بن معين: بلغنا عن مالك أنه قال:
عجبًا من شعبة هذا الذي ينتقي الرجال، وهو يحدث عن عاصم بن عبيد اللَّه “
فهذا كلام يرويه ابن معين وقبله ابن المديني بلا نكير ولا تعقب مما يدل علىٰ أنه استقر في قلوبهم انتقاء شعبة في الشيوخ
وكذلك يحيىٰ القطان وعبد الرحمن بن مهدي من أهل النقد الذي ينتقون
يدلك علىٰ ذلك ما جاء في سؤالات أبي داود:
” قلت لأحمد: إذا روى يحيىٰ أو عبد الرحمن بن مهدي عن رجل مجهول، يحتج بحديثه؟، قال: يحتج بحديثه “
ويدلك علىٰ ذلك أيضًا أنهما يذكران في كتب الجرح والتعديل بذكر روايتهما عن الشيخ أو بذكر تركهما الرواية عن الشيخ
فروايتهما معروف ومشهور أنها تعديل، وكذلك تركهما الرواية معروف أنه جرح
قال البخاري في الضعفاء:
” ٢٨٢ - عمَارَة بن جُوَيْن أَبُو هَارُون الْعَبْدي عَن أبي سعيد تَركه يحيىٰ الْقطَّان
٣٢٢ - مُحَمَّد بن السَّائِب أَبُو النَّضر الْكَلْبِيّ، تَركه يحيىٰ بن سعيد
٤١٢ - يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم القَاضِي سمع بن السَّائِب، تَركه يحيىٰ وَابْن مهْدي وَغَيرهمَا “
فهذا البخاري يذكر في كتاب الضعفاء جرح الراوي بترك يحيىٰ وابن مهدي الرواية عنه
قال الترمذي في جامعه:
” وَأَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ، وَجَابِرُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ ضَعَّفُوهُ، تَرَكَهُ يَحْيَىٰ بْنُ سَعِيدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بن مهْدِيٍّ “
فذكر التضعيف بترك الرواية، وإذا ثبت هذا فضده ثابت أعني التعديل بالرواية
وقد كان الفلاس رحمه اللَّه مهتمًا بهذا فكان يذكر الراوي ويقول: تركه يحيىٰ وعبد الرحمن، أو روىٰ عنه يحيىٰ وعبد الرحمن، هذا أو فيما معناه
قال ابن عدي في الكامل:
” كَتَبَ إِلَيَّ مُحَمد بْنُ الْحَسَنِ البري، حَدَّثَنا عَمْرو بن علي، قَال: كان يَحْيىٰ، وَعَبد الرحمن لا يحدثان عن طلحة بن عَمْرو
كتب إلي مُحَمد بن الحسن البري، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرو بن علي يقول كان يَحْيىٰ، وَعَبد الرحمن لا يحدثان عن الحسن بن دينار
كَتَبَ إِلَيَّ مُحَمد بْنُ الْحَسَنِ الْبُرِّيُّ، حَدَّثَنا عَمْرو بن علي، قَال: كان يَحْيىٰ، وَعَبد الرحمن لا يُحَدِّثَانِ عَنْ عَمْرو بْنِ عُبَيد، وَكَانَ يَحْيىٰ يُحَدِّثُنَا عَنْهُ ثُمَّ تركه “
أقول: البري هذا وصفه ابن المقرئ في معجمه بالصلاح، فإن كان ثقةّ فلا إشكال وإن كان ضعيفًا فيحتمل فيما يرويه غير مسند عن شيخه المباشر ما دام عدلًا صالحًا لا يكذب
وهذا الإشكال الذي ذكرته في الخلط بين نوعي المعارضة ممتد لمباحث حديثية أخرىٰ فمثلًا مسألة المدلس المكثر الملازم لشيخه:
فإن المدلس المكثر الملازم لشيخه يغلب عليه السماع فلا يكاد يفوته شيء من حديث الشيخ حتىٰ يضطر لسماعه من أحدهم فيدلسه عن شيخه بالعنعنة
فإنا وجدناه قد دلس عن شيخه الذي أكثر عنه لمعارض دفع طرد علة غلبة السماع فهذا لا يلغي الأمر كله لأن علة غلبة السماع باقية
قال الخطيب البغدادي في الكفاية:
” أخبرنا أبو نعيم الحافظ، ثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا بشر بن موسىٰ، قال: قال عبد اللَّه بن الزبير الحميدي: وإن كان رجل معروفًا بصحبة رجل والسماع منه:
مثل ابن جريج، عن عطاء، أو هشام بن عروة، عن أبيه، وعمرو بن دينار عن عبيد بن عمير
ومن كان مثل هؤلاء في ثقتهم ممن يكون الغالب عليه السماع ممن حدث عنه، فأدرك عليه أنه أدخل بينه وبين من حدث رجلًا غير مسمىٰ، أو أسقطه:
تُرِكَ ذلك الحديث الذي أدرك عليه فيه أنه لم يسمعه، ولم يضره ذلك في غيره، حتىٰ يدرك عليه فيه مثل ما أدرك عليه في هذا، فيكون مثل المقطوع “
هذا إسناد صحيح إلىٰ الحميدي وهو شيخ البخاري المعروف
وقوله: ( لم يضره في غيره )، هو الحق
وقد أحسن الذهبي إذ تنبه لعلة غلبة السماع في أمر الأعمش فقال عفىٰ اللَّه عنا وعنه:
( وهو يدلس، وربما دلس عن ضعيف، ولا يدرى به، فمتىٰ قال حدثنا فلا كلام، ومتى قال عن تطرق إلىٰ احتمال التدليس إلّا في شيوخ له أكثر عنهم: كإبراهيم، وأبي وائل، وأبي صالح السمان
فإن روايته عن هذا الصنف محمولة علىٰ الاتصال. “
وعنعنة الأعمش عن أبي وائل في صحيح البخاري، وعنعته عن أبي صالح في صحيح مسلم
وتلك القاعدة تنفعنا في أمر الراوي المُرسِل الذي الأصل قإرساله إلارسال الخفي لا تدليس الإسناد
ففي اصطلاح عموم المتقدمين المرسل يأتي لعموم المنقطع، فيستخدم للمنقطع الخفي أي المرسل الخفي، ويستخدم المنقطع الجلي أي المرسل الجلي:
يعني يكون الانقطاع بمثل هذا بينًا كأن يكون الراوي لم يدرك زمن الذي يروي عنه
ويستخدم المرسل للمنقطع الإسنادي الذي هو تدليس الإسناد المعروف، وكذلك التدليس يستخدم للمرسل الخفي
فمثلًا قال ابن حبان عن يحيىٰ بن أبي كثير كما في الثقات:
” وَكَانَ يُدَلس فَكلما روىٰ عَنْ أنس فقد دلّس عَنْهُ، وَلم يسمع من أنس وَلَا من صَحَابِيّ شَيْئًا “
وتدليس الإسناد يُشتَرط فيه تحقق أصل السماع فأمّا الذي لم يسمع شيئًا فهذا يرسل إرسالًا خفيًّا
ومثلًا قال ابن أبي حاتم في مقدمته:
” ٣٢٠ - نا صالح، نا علي قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي قال: سمعت سفيان وذكر منصورًا يومًا، فقال: ربما حدث عن رجلين عن إبراهيم، كأنّه يقول: لا يرسل شيئًا “
هذا إسناد صحيح لسفيان، وأصل سماع منصور من إبراهيم النخعي متحقق، فمراد سفيان الثوري المرسل الذي هو منقطع الإسناد - التدليس - لا المرسل الخفي
طيب فالراوي الذي غالب إرساله إرسال خفي لا تدليس الإسناد فهذا لا تضر عنعنته إذا ثبت أصل السماع وإن كان مدلسًا
فالذي يضر هو تدليس الإسناد الذي يغلب علىٰ الراوي بحيث لا بد أن يصرح كما ذكر علي بن المديني، فأمّا الذي يقل تدليسه بحيث يكون غالب إرساله خفيًّا لا إسناديًّا تدليسيًّا فتقبل عنعنته بالأصل
إلًا إن وُجِدَ معارض يدلنا علىٰ تدليس الإسناد، ومثل هذا لا يدفع الأمر كله كما بينت
طيب فلدينا مثلًا أبو إسحاق السبيعي رحمه اللَّه، لو نظرنا في أمره لوجدنا غالب إرساله إرسال خفي لا التدليس
فلدينا مثلًا علقمة بن قيس النخعي صاحب ابن مسعود رضي اللَّه عنه المعروف
أبو إسحاق أدرك علقمة وهو كوفي مثله فلا تباعد قطري يصعب معه اللقاء عادةً ومع ذلك لم يسمع منه فروايته عنه مرسلة
قال ابن أبي حاتم في المراسيل:
” ٥٢٤ - قَالَ أَبِي وَأَبُو زرْعَة: أَبُو إِسْحَق لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَلْقَمَةَ شَيْئًا
٥٢٥ - حدَّثَنَا أَبِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، نَا أُمَيْةَ ُبْنُ خَالِدٍ الْأَزْدِيُّ، نَا شُعْبَةُ قَالَ: كنتُ عِنْد أبي إِسْحَق الْهَمْدَانِيِّ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: شُعْبَةُ يَقُولُ إِنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ مِنْ عَلْقَمَةَ، قََاَل: صَدَقَ شُعْبَة “
ولدينا أيضًا ذو الجوشن الضبابي صحابي رضي اللَّه عنه فقد أدركه أبو إسحاق وكان كوفيًّا مثله فلا يبعد لقاءه عنه ومع ذلك قال ابن أبي حاتم في المراسيل:
” ٥٢٧ - سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ يُقوُل: وَحَدِيثُ ابْنِ عُيَيْنَةِ، عَنْ أَبِي إِسْحَق، عَنْ ذِي الْجَوْشَنِ: هوَ مُرْسَلٌ لم يسمع أَبُو إِسْحَق مِنْ ذِي الْجَوْشَن ”
أقول: وإنما كان جارًا لابنه وكان يصلي معهم الصبح فيظهر أن حديثه عن ذي الجوشن أخذه عن ابنه
قال البخاري في التاريخ: ” مُحَمَّد بْن عباد حدثنا سفيان عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ ذي الجوشن أَبِي شمر الضبابي، وكَانَ ابنه جارا لأَبِي إِسْحَاق ولا أراه إلا سمعه من ابْن ذي الجوشن ”
ولدينا أيضًا ابن عمر فقد أدرك زمانه ومن حيث إمكان اللقاء والسماع فهو قد رآه ومع ذلك قال ابن أبي حاتم في المراسيل:
” ٥٢٦ - سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: لَمْ يَسْمَعْ أَبُو إِسْحَق مِنَ ابْنِ عُمَرَ، إِنَّمَا رَآهُ رُؤْيَةً “
ولدينا أيضًا حجر بن عدي رحمه اللَّه وقد أدركه أبو إسحاق وكان كوفيًّا مثله وقد رأه ومع ذاك لم يسمع منه شيئًا، قال ابن أبي حاتم:
” ٥٢٩ - سَمِعت أبي يَقُول: أَبُو إِسْحَق الْهَمْدَانِيُّ قَدْ رَأَىٰ حُجْرَ بْنَ عَدِيِّ وَلَا أَعْلَمُ سَمِعَ مَنْهُ “
فالملاحظ بعد كل هذا وغيره أن الأصل في تدليس أبي إسحاق هو الإرسال الخفي لا تدليس الإسناد
فقول ابن حبانٍ في الثقات عن أبي إسحاق: "وكان مدلسًا“، إنما يُراد به الإرسال الخفي غالبًا
فإن عنعن وثبت أصل سماعه فيقبل منه إلا لمعارض
فمثال ما ثبت فيه المعارض: الحارث الأعور
قال ابن أبي حاتم في الجرك والتعديل:
” الحارث الأعور: روىٰ عنه عبد اللَّه بن مرة وأبو إسحاق “
وقال عبد اللَّه بن أحمد في العلل:
” حدثني أبي قال: سمعت أبا بكر بن عياش قال: قل ما سمع أبو إسحاق من الحارث، ثلاثة أحاديث “
فأصل سماعه من الحارث متحقق
قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل:
” حدثنا عبد الرحمن أنا ابن أبي خيثمه فيما كتب إلي قال سمعت أبي يقول:.كان يحيىٰ بن سعيد القطان يحدث من حديث الحارث ما قال فيه أبو إسحاق: سمعت الحارث “
واشتراط التصريح في السماع إنّما هو لغلبة التدليس الإسنادي
فإذًا رواية أبي إسحاق عن الحارث عمومها مدلسة إلّا أحاديث معدوة
ولا يضر هذا فيما لم يثبت فيه معارض
ولهذا فقد صحح الإمام أحمد كما في السنة لعبد اللَّه أثر عبد اللَّه بن خليفة عن عمر عليه السلام في جلوس الرب تعالىٰ
والأثر إنما يرويه أبو إسحاق بالعنعنة عن التابعي عبد اللَّه بن خليفة، فأحمد قبل عنعنته
ولدينا مثال آخر ثبت فيه تدليس أبي إسحاق
قال عبد اللَّه بن أحمد في العلل:
” حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن قيس، عن أبي إسحاق، عن رجل، عن علي: ليس في الخضر زكاة، البقل والقثاء والتفاح “
قال أبي: ورواه قيس ومعمر، عن أبي إسحاق. “
أقول: فأمَّا رواية معمر فرواها عبد الرزاق في المصنف فقال:
” ٧١٨٨ - عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَيْسَ فِي الْخُضَرِ صَدَقَةٌ الْبَقْلِ، وَالتُّفَاحِ، وَالْقِثِّاءِ “
وأمَّا رواية قيس فرواها عبد الرحمن بن مهدي ورواها أيضًا قرينه وكيع بن الجراح كما في مصنف ابن أبي شيبة:
” ١٠٠٣٦ - حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: لَيْسَ فِي الْخُضَرِ شَيْءٌ “
فاتضح أن الرجل الذي لم يذكر اسمه عبد الرحمن بن مهدي هو عاصم بن ضمرة، وأبو إسحاق السبيعي قد سمع من عاصم
ومع ذلك فقال عبد اللَّه في العلل:
” حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: سمعت سفيان في حديث أبي إسحاق في الخضر، قال: ليس هذا من حديث أبي إسحاق “
يعني ليس ذاك حديثه عمن سماه - وهو عاصم - ولكنه دلسه عنه
وسفيان يقول نحوًا من قوله: ”ليس هذا من حديث أبي إسحاق“ في الأعمش فيما دلسه من الأحاديث كما الجرح والتعديل لابن أبي حاتم
والمثال الآخر في هذا الباب هو سليمان بن مهران الأعمش، فهذا راوٍ مشهور وكثيرًا ما يعل الناس بعنعته، والواقع أنّه كأبي إسحاق
وذاك لأن الأصل بتدليسه هو الإرسال الخفي أيضًا، فمثلًا هو يروي عن أنس رضي اللَّه عنه وهو لم يسمع منه أبدًا وأمكنه لقياه والسماع إذ هو قد رآه
ويروي عن أبي صالح باذام وهو قد أدركه وأمكنه لقياه إذ هو كوفي مثله ولم يسمع منه أبدًا، قال ابن أبي حاتم في المراسيل
” ٢٩٨ - سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: لَمْ يَسْمَعْ الْأَعْمَشُ مِنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أَمِّ هانئ، قِيلَ لَهُ؛ إِنَّ ابْنِ أَبِي طِيبَةَ يُحَدِّثُ عَنْ الْأَعْمَشِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هانئ، فَقَالَ: هَذَا هُوَ مُدَلَّسٌ عَنِ الْكَلْبِيِّ “
ويروي عن شمر بن عطية وهو قد أدركه وأمكنه لقياه إذ هو كوفي مثله وبل قد أدرك أناسًا من طبقة شيوخه فسمع منهم، ومع ذلك قال ابن أبي حاتم في المراسيل:
” ٢٩٦ - أَخْبَرَنَا حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْكَرْمَانِيُّ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ قَالَ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الْأَعْمَشُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ شَمِرِ بْنِ عَطِيَّةَ “
وكذلك ابن سيرين فقد أدرك زمانه وليس بينه وبين ابن سرين تباعد قطري كبير بحيث يصعب اللقاء ومع ذلك قال ابن أبي حاتم:
” ٣٠١ - سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ يَقُولُ: لَمْ يَسْمَعْ الْأَعْمَشُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين “
وكذلك يروي عن همام بن الحارث النخعي وقد أدركه وأمكنه لقاءه فهو كوفي مثله ولم يسمع منه أبدًا، قال ابن أبي حاتم:
” ٣٠٦ - سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: الْأَعْمَشُ عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ مُرْسَلٌ بَيْنُهَما إِبْرَاهِيمُ “
قال ابن أبي حاتم في المراسيل:
” ٣٠٣ - سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ يَقُولُ: لَمْ يَسْمَعِ الْأَعْمَشُ مِنْ عِكْرِمَةَ شَيْئًا “
وهو أدرك زمانه وليس بينه وبين عكرمة تباعد قطري عظيم
وكذلك معصب بن سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنهما روىٰ عنه وأدركه وأمكنه لقياه فهو كوفي مثله ولم يسمع منه
قال ابن أبي حاتم:
” ٢٩٩ - سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: لَمْ يَسْمَعْ الْأَعْمَشُ مِنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ شَيْئًا “
فقد بأن بهذا وغيره أن الأصل بتدليسه الإرسال الخفي فتقبل عنعنته، فإن ثبت ما يدفع طرد الأصل فذاك وإلا فالعمل علىٰ الأص
قال أبو داود في سؤالاته:
” [١٣٨] - سمعت أحمد سُئِلَ عن الرجل يعرف بالتدليس يحتج فيما لم يقل فيه سمعت؟، قال: لا أدري
فقلت: الأعمش متى تصاد له الألفاظ؟، قال: يضيق هذا، أي أنك تحتج به “
فهذا أحمد يقرر أن تدليس الإسناد عند الأعمش ضيق، ولهذا فيُحتج به لأصل ضيق تدليس إسناده ما لم يثبت معارض
فمثلًا أحاديثه عن مجاهد معروف أنها مدلسة إلا بعض الأحاديث
عنعنته في صحيح البخاري، مثلًا عنعنته عن عبد اللَّه بن مرة
وكذلك عنعنته في صحيح مسلم، فمثلًا عنعنته عن سالم بن أبي الجعد
فالأصل قبول عنعنته
واعلم رحمك اللَّه أن صناعة الحديث لا تؤخذ بالأصل من أهل الكلام ولا من أهل الرأي بل من أهل الحديث، فلا عدول لطالب العلم عنهم
وإنما يؤخذ عن أهل الرأي والكلام الذين لهم علم بالحديث ما أخذوه من أهل الصنعة والحديث أصالةً، ووافقوهم فيه موافقةً
قال الإمامُ مُسلّمُ بنُ الحجَاج القشيري في التمييز / ١٩٦:
( واعلم رحمك اللَّه: أنَّ صناعة الحديث ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم، إنما هي لأهل الحديث خاصة
لأنّهم الحفاظ لروايات النّاس العارفين بها دون غيرهم، إذ الأصل الذي يعتمدون لأديانهم السنن والآثار المنقولة من عصر إلىٰ عصر من لدن النبي ﷺ إلىٰ عصرنا هذا:
فلا سبيل لمن نابذهم من النّاس وخالفهم في المذهب إلىٰ معرفة الحديث ومعرفة الرّجال من علماء الأمصار فيما مضىٰ من الأعصار من نقل الاخبار وحُمّال الآثار
وأهل الحديث هم الذين يعرفونهم ويميزونهم حتى ينزلوهم منازلهم في التعديل والتجريح، وإنما اقتصصنا هذا لكي نثبته لمن جهل مذهب أهل الحديث ممّن يريد التعلم والتنبه علىٰ تثبيت الرّجال وتضعيفهم، فيعرف ما الشواهد عندهم والدلائل التي بها ثبتوا الناقل للخبر من نقله أو سقطوا من أسقطوا منهم والكلام في تفسير ذلك يكثر، وقد شرحناه في مواضع غير هذا، وباللَّه التوفيق في كل ما نؤم ونقصد )
فهذا وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد
تعليقات
إرسال تعليق