نقد الصحابة والتابعين لما عند أهل الكتاب...
بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:
فإنَّه يكثر رد الأخذ بما ما دلت عليه آثار الصحابة والتابعين في أمور الغيب بدعوىٰ أن تلك الأثار من الإسرائيليات!
وبعض الإخوة يقولون: جزم الصاحب أو التابع بكلام يمتنع إن كان قوله من أهل الكتاب، فالإسرائيليات لا تصدق ولا تكذب
وهذا صحيح، إلا أني أقول: ليس للإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب وجه ولا باب فيما فيه فائدة أو نفع ديني عائد علىٰ المرء أصلًا
فمثل تلك الأمور لا يعقل أن لا يكون في علم الأمة كلها شيء يصدقها أو يكذبها
وإلا فأين ما علمه النبي ﷺ لصحابته حتىٰ أنه لم يترك طيرًا يقلب جناحيه ولا أدبًا في شأن الخلاء إلا وأخبرهم عنه علمًا
وأين ما أخذه التابعون عن الصحابة مما علمهم إياه النبي ﷺ؟
وقد قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما كما في صحيح البخاري وهو ينهىٰ عن مسألة أهل الكتاب: ( أولا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم )
فاحتج بأن للأمة كفاية بما جاءها من العلم عن مسألة أهل الكتاب والأخذ عنهم
وقال ابن تيمية في مقدمة التفسير عن الإسرائيليات:
( فإنّها علىٰ ثلاثة أقسام:
- أحدها: ما علمنا صحته ممّا بأيدينا ممّا يشهد له بالصدق فذاك صحيح
- والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا ممّا يخالفه
- والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه وتجوز حكايته: لما تقدم
وغالب ذلك ممّا لا فائدة فيه تعود إلىٰ أمر ديني )
أقول: الجملة الأخيرة هي الشاهد
وقد أشار حمود التويجري في كتابه الرد القويم إلىٰ المعنىٰ الذي ذكرت بأن الأمة مستغنية بعلمها عن أهل الكتاب ومكتفية فيما يُحتَاج إلىٰ معرفته
واستدل بالحديث في صحيح مسلم: ( صلى بنا رسول اللَّه ﷺ الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتىٰ حضرت الظهر فنزل فصلىٰ ثم صعد المنبر فخطبنا حتىٰ حضرت العصر ثم نزل فصلىٰ صم صعد المنبر فخطبنا حتىٰ غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا )
وهذا الحديث إنما يراد به التعليم الإجمالي لما كان وما هو كائن، وإلا فالنبي ﷺ نفسه لم يعلم ما أحدث الذي يُذاذون من حوضه
وعلىٰ كل حال قال حمود التويجري رحمه اللَّه بعد أن ذكر الحديث وغيره من الأثار:
” وفي هذه الأحاديث أبلغ رد علىٰ كلام ابن خلدون لأن النبي ﷺ لم يترك شيئًا من بدء الخلق إلىٰ قيام الساعة إلا ذكره لأمته فأي حاجة بهم مع بيان النبي ﷺ إلىٰ سؤال أهل الكتاب والاستفادة منهم ”
وعلىٰ الكلام المذكور كله فلو فرضنا أن الصحب أو الأتباع الكرام أخذوا عن أهل الكتاب شيئًا ذا بال فلا جرم لن يأخذوا إلا ما وافق ولم يخالف بناءً علىٰ ما جاءهم من العلم
وقد دلت الأثار علىٰ نقد الصحابة والتابعين وتحرزهم
وعلىٰ هذا دل الآثر فقال ابن جرير الطبري في تفسيره [٢٢/ ٤٥٨]:7٧
” حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ:
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ: أَيْنَ جَهَنَّمُ؟، فَقَالَ: الْبَحْرُ
قَالَ: مَا أُرَاهُ إِلَّا صَادِقًا، {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِرَتْ}، مُخَفَّفَةً “
هذا إسناد صحيح، والشاهد أنَّ عليًّا رضي اللَّه عنه ينتقد قول اليهودي ويعرضه علىٰ الكتاب فيجده موافقًا له
وقال عبد الرزاق في تفسيره / ١٩٠:
” ١٢١٥ - عَنْ مَعْمَرٍ, عَنْ قَتَادَةَ, قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الْحَسَنِ، فَقَالَ:
{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ}، لَعَمْرُ اللَّهِ مَا هُوَ ابْنُهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ}, وَتَقُولُ: لَيْسَ بِابْنِهِ
قالَ: أَفَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكِ}؟
قَالَ: قُلْتُ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكِ الَّذِينَ وَعَدْتُكَ أَنْ أُنَجِّيَهُمْ مَعَكَ, وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ ابْنُهُ, قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَكْذِبُونَ “
هذا إسناد صحيح ولا يعل هذا بضعف معمر عن قتادة فهو لم يحفظ عنه الأسانيد فأمَّا كلامه فكان كأنَّه يُنقش علىٰ صدره
والشاهد من الأثر أنَّ الحسن البصري خالف إجماع أهل الكتاب لما رأه في كتاب اللَّه جل وعز وعلل ذلك بأنهم يكذبون
فمثله ينتقد ويعرض علىٰ كتاب اللَّه تعالىٰ أقوال أهل الكتاب وإن كان الأمر محل إجماع بين أهل الكتاب
واللَّه المستعان الانتقاد والانتقاء هو الأمر اللائق بكمال السلف، فكيف يُظَن فيهم رواية الإسرائيليات المنكرة المكذوبة - وهذا حرام أصلًا - أو رواية الإسرائيليات بلا نقد ولا انتقاء؟
هذا وتكلمهم بالأمر جزمًا إن كان مأخوذًا من أهل الكتاب يؤكد أن الكلام عندهم مُصدَّق ومُنتَقىٰ
وقد قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث:
( وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا تُدْرَكُ بِالنَّظَرِ وَالْقِيَاسِ وَالْعُقُولِ، وَإِنَّمَا يُنتهىٰ فِيهَا إِلَىٰ مَا قَالَهُ الرَّسُولِ ﷺ، أَوْ مَا قَالَهُ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ وَشَاهَدَهُ.
فَإِنَّهُمْ لَا يَقْضُونَ عَلَى مَثَلِهِ إِلَّا بِسَمَاعٍ مِنْهُ أَوْ سَمَاعٍ مِمَّنْ سَمِعَهُ، أَوْ بِخَبَرٍ صَادِقٍ مِنْ خَبَرِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أُمُورِ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ )
فذكر أنهم إن قضوا علىٰ أمر لا يدرك بنظر ولا قياس فإنما ذلك كان لسماع من النبي ﷺ أو ممن سمع أو لخبر صادق من أخبار الكتب المتقدمة قد عُلِمَ صدقه وصحته بما عند الأمة من علم
هذا وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد
تعليقات
إرسال تعليق