مذهب الأئمة في الزيادة الشاذة...

بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:

فيقول بعض الناس في زيادة الثقة: تقبل زيادة الثقة مطلقًا فلو روىٰ الثقة الحديث منفردًا لقبلناه فكذلك نقبل ما زاده

والجواب أن يقال: هذا قياس مع الفارق، فرواية الثقة حديثًا مع أقرانه بزيادة عنهم تقتضي توهيم أقرانه إن صحت زيادته

وهذا بخلاف ما لو روىٰ الحديث منفردًا، ثم إنَّ الثقة إذا انفرد بحديث فلا يقبل منه مطلقًا بل قد يعل تفرده فيستنكر

ويقول بعض الناس: تقبل زيادة الثقة مطلقًا كما تقبل زيادة الشاهد في شهادته علىٰ صاحبه فمن حفظ حجة علىٰ من لم يحفظ

وقد يستدل هؤلاء بكلام الإمام مسلم في التمييز حين قال / ١٥٥:

” والْحَدِيث للزائد والحافظ لأنَّه فِي معنىٰ الشَّاهِد الَّذِي قد حفظ فِي شَهَادَته مَا لم يحفظ صَاحبه

وَالْحِفْظ غَالب علىٰ النسْيَان وقاض عَلَيْهِ لَا محَالة “

والجواب: أنَّ هذا القياس فاسد، فزيادة الراوي علىٰ أقرانه تقتضي توهيمهم إن صحت زيادته كما ذكرنا

وذلك لأنَّهم مجتمعين علىٰ الحديث من طريق الشيخ نفسه، فهذا بخلاف أمر الشهادة

وهذا القياس لو صح للزم قبول زيادة كل ثقة، وهذا مخالف لكلام مسلم نفسه ولنهج أئمة العلل الذين نقل عنهم مسلم ما يخالف هذا في كتابه التمييز

قال ابن رجب في شرح علل الترمذي / ٦٤٢ - ٦٤٣:

” وذكر مسلم ـ أيضًا ـ في هذا الكتاب رواية من روىٰ من الكوفيين ممن روىٰ حديث ابن عمر:

في سؤال جبريل للنبي ﷺ عن شرائع الإسلام فأسقطوا من الإسناد عمر، وزادوا في المتن ذكر الشرائع

قال مسلم في هذه الزيادة: هي غير مقبولة، لمخالفة من هو أحفظ منهم من الكوفيين كسفيان، ولمخالفة أهل البصرة لهم قاطبة، فلم يذكروا هذه الزيادة

وإنَّما ذكرها طائفة من المرجئة ليشيدوا بها مذهبهم

وأمَّا زيادة عمر في الإسناد، فقال:

أهل البصرة أثبت وهم له أحفظ من أهل الكوفة إذ هم الوائدون في الإسناد عمر، ولم يحفظه الكوفيون، والحديث للزائد والحافظ

لأنَّه في معنىٰ الشاهد الذي حفظ في شهادته ما لم يحفظ صاحبه

وهذا القياس الذي ذكره ليس بجيد، لأنَّه لو كان كذلك لقبلت زيادة كل ثقة، زاد في روايته، كما يقبل ذلك في الشهادة

وليس ذلك قول مسلم، ولا قول أئمة الحفاظ، واللَّه أعلم.

وإنَّما قبلت زيادة أهل البصرة في الإسناد لعمر لأنَّهم أحفظ وأوثق ممَّن تركه من الكوفيين “

فإن قيل: فما منهج أئمة العلل في زيادة الثقة إذًا؟

قيل: ما ذكره الإمام مسلم رحمه اللَّه فقال في التمييز  / ٩٠:

” فهذه الجهة التي وصفنا من خطأ الإسناد ومتن الحديث: هي أظهر الجهتين خطأً، وعارفوه في النَّاس كُثر

والجهة الأخرىٰ: أن يروي نفرٌ من حفاظ النَّاس حديثًا عن مثل الزهري أو غيره من الأئمة بإسناد واحد ومتن واحد:

مجتمعون علىٰ روايته في الإسناد والمتن لا يختلفون فيه في معنًى

فيرويه آخر سواهم عمَّن حدث عنه النفر الذين وصفناهم بعينه

فيخالفهم في الإسناد أو يقلب المتن فيجعله بخلاف ما حكىٰ من وصفنا من الحفاظ

فيُعلم حينئذٍ أنَّ الصحيح من الروايتين ما حدث الجماعة من الحفاظ دون الواحد المنفرد، وإن كان حافظًا

علىٰ هذا المذهب رأينا أهل العلم بالحديث يحكمون في الحديث، مثل شعبة وسفيان بن عيينة ويحيىٰ بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من أئمة أهل العلم “

وعلىٰ هذا قول الإمام الشافعي رضي اللَّه عنه، قال ابن أبي حاتم في أداب الشافعي ومناقبه / ١٧٨ - ١٧٩:

” ثَنا يُونُسُ نَفْسُهُ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: لَيْسَ الشَّاذُّ مِنَ الْحَدِيثِ أَنْ يَرْوِيَ الثِّقَةُ حَدِيثًا لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ، إِنَّمَا الشَّاذُّ مِنَ الْحَدِيثِ أَنْ يَرْوِيَ الثِّقَاتُ حَدِيثًا، فَيَشِذَّ عَنْهُمْ وَاحِدٌ، فَيُخَالِفَهُمْ “

والزيادة من باب المخالفة فمضمون هذا أنَّ زيادة الثقة بما لم يأت به الثقات الذين شاركوه مردودة عند الشافعي كما هي عند أئمة العلل

قال ابن رجب في شرح علل الترمذي / ٦٣٧:

” وحكىٰ أصحابنا الفقهاء عن أكثر الفقهاء والمتكلمين قبول الزيادة إذا كانت من ثقة، ولم تخالف المزيد

وهو قول الشافعي، وعن أبي حنيفة أنَّها لا تقبل

وعن أصحاب مالك في ذلك وجهان

وفي حكاية ذلك عن الشافعي نظر

فإنَّه قال في الشاذ: هو أن يروي ما يخالف الثقات، وهذا يدل علىٰ أن الثقة إذا انفرد عن الثقات بشيء أنه يكون ما انفرد به عنهم شاذًا غير مقبول، واللَّه أعلم. “

ويبقىٰ أمر وهو: أنَّ رد زيادة الثقة لمخالفته حديث الثقات بهذه الزيادة إنَّما هذا في زيادة الثقة الذي ليس في أعلىٰ درجات الوثاقة والتثبت

فأمَّا الثقات الكبار الذين يصعب توهيمهم والذين هم من كبار تلاميذ الشيخ المعين فقد تقبل زيادتهم لكونهم أثبت وقد لا تقبل زيادتهم لترجيح الأكثر عليهم إذ الأكثر أولىٰ بالحفظ

قال مسلم في مقدمة صحيحه / ٧:

” وَعَلَامَةُ الْمُنْكَرِ فِي حَدِيثِ الْمُحَدِّثِ إِذَا ما عرضت روايته للحديث عن رِوَايَةِ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ وَالرِّضَا، خَالَفَتْ رِوَايَتُهُ رِوَايَتَهُمْ، أَوْ لَمْ تَكَدْ تُوَافِقُهَا

فَإِذَا كَانَ الأَغْلَبُ مِنْ حَدِيثِهِ كَذَلِكَ، كَانَ مَهْجُورَ الْحَدِيثِ، غَيْرَ مَقْبُولِهِ وَلَا مُسْتَعْمَلِهِ

فَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَرَّرٍ، وَيَحْيَىٰ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، وَالْجَرَّاحُ بْنُ الْمِنْهَالِ أَبُو الْعَطُوفِ، وَعَبَّادُ بْنُ كَثِير، وَحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ، وَعُمَرُ بْنُ صُهْبَانَ

وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ فِي رِوَايَةِ الْمُنْكَرِ مِنَ الْحَدِيثِ، فَلَسْنَا نُعَرِّجُ عَلَى حَدِيثِهِمْ، وَلَا نَتَشَاغَلُ بِهِ

لِأَنَّ حُكْمَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالَّذِي نَعْرِفُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ فِي قَبُولِ مَا يَتَفَرَّدُ بِهِ الْمُحَدِّثُ مِنَ الْحَدِيثِ

أَنْ يَكُونَ قَدْ شَارَكَ الثِّقَاتِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحِفْظِ فِي بَعْضِ مَا رَوَوْا، وَأَمْعَنَ فِي ذَلِكَ عَلَىٰ الْمُوَافَقَةِ لهم إذا وجد كذلك

ثم ذاد بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا لَيْسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ، قُبِلَتْ زِيَادَتُهُ “

ومراده بهذا يعني الذين شاركوا الثقات من أهل العلم والحفظ ببعض ما رووا فوافقهم أي موافقة تامة محكمة بحيث يكونون من طبقة الحفاظ الكبار

وعلىٰ هذا التفسير فسر مسلم كلامه بقبول زيادة الثقة في مقدمة صحيحه:

إذ قال في التمييز / ١٢٨ - ١٢٩:

” والزيادة في الأخبار لا تلزم إلَّا عن الحفاظ الذين لم يعثر عليهم الوهم في حفظهم “

ولا يخالف هذا كلامه الأول في التمييز بحكمه للحفاظ بدلًا من الحافظ المنفرد

إذ هو هنا يتكلم عن الحافظ الذي هو في أعلىٰ الدرجات لا عن أي حافظ، وهناك يتكلم عن الحافظ الذي هو دون كبار وعلية الحفاظ

قال ابن رجب في شرح العلل متحدثًا عن الخطيب البغدادي / ٦٣٩ - ٦٤٠:

” وذكر في الكفاية حكاية عن البخاري أنَّه سُئِلَ عن حديث أبي إسحاق في النكاح بلا ولي

قال: الزيادة من الثقة مقبولة، وإسرائيل ثقة.

وهذه الحكاية إن صحت فإنَّما مراده الزيادة في هذا الحديث، وإلَّا فمن تأمل كتاب تاريخ البخاري تبين له قطعًا أنَّه لم يكن يرىٰ أن زيادة كل ثقة في الإسناد مقبولة

وهكذا الدارقطني يذكر في بعض المواضع أن الزيادة من الثقة مقبولة، ثم يرد في أكثر المواضع زيادات كثيرة من الثقات، ويرجح الإرسال علىٰ الإسناد.

فدل علىٰ أن مرادهم زيادة الثقة في مثل تلك المواضع الخاصة، وهي إذا كان الثقة مبرزاً في الحفظ

وقال الدارقطني في حديث زاد في إسناده رجلان ثقتان رجلًا، وخالفهما الثوري فلم يذكره

قال: لولا أن الثوري خالف لكان القول قول من زاد فيه، لأنَّ زيادة الثقة مقبولة

وهذا تصريح بأنَّه إنما يقبل زيادة الثقة إذا لم يخالفه من هو أحفظ عنه “

وقال الترمذي كما في شرح العلل / ٦٣٠:

” ورب حديث إنَّما استغرب لزيادة تكون في الحديث، وإنما يصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد على محله

مثل ما روىٰ مالك بن أنس، عن نافع عن ابن عمر، قال: فرض رسول اللَّه ﷺ زكاة الفطر في رمضان علىٰ كل حر أو عبد ذكر أو أنثىٰ من المسلمين صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير

فزاد مالك في هذا الحديث: من المسلمين

وروىٰ أيوب السختياني وعبيد اللَّه بن عمر، وغير واحد من الأئمة هذا الحديث عن نافع عن ابن عمر، ولم يذكر فيه: من المسلمين

وقد روىٰ بعضهم عن نافع مثل رواية مالك، ممن لا يعتمد علىٰ حفظه

وقد أخذ غير واحد من الأئمة بحديث مالك واحتجوا به

منهم الشافعي وأحمد بن حنبل، قالا: إذا كان للرجل عبيد غير مسلمين لم يؤد زكاة الفطر عنهم، واحتجا بحديث مالك

فإذا زاد حافظ ممَّن يعتمد علىٰ حفظه قبل ذلك عنه “

قوله: ممن يعتمد علىٰ حفظه يعني أنَّ هناك حفاظ لا يعتمد علىٰ حفظهم يعني فيما إذا خالفوا منفردين نفرًا من الحفاظ بزيادة 

قال ابن رجب بعدها / ٦٣١:

” وقد ذكر الترمذي أن الزيادة إن كانت من حافظ يعتمد علىٰ حفظه فإنَّها تقبل

يعني: وإن كان الذي زاد ثقة لا يعتمد علىٰ حفظه لا تقبل زيادته “

وقال ابن رجب في شرح العلل / ٦٣١ - ٦٣٤:

” وهذا ـ أيضًا ـ ظاهر كلام الإمام أحمد، قال في رواية صالح: قد أنكر على مالك هذا الحديث، يعني زيادته: من المسلمين 

ومالك إذا انفرد بحديث هو ثقة

وما قال أحد ممن قال بالرأي أثبت منه، يعني في الحديث

وقال: قد رواه العمري الصغير والجمحي ومالك

وكلام الترمذي ههنا يدل علىٰ خلاف ذلك وأن العبرة برواية مالك، وأنَّه لا عبرة ممن تابعه ممن لا يعتمد علىٰ حفظه

فذكر أحمد أنَّ مالكًا يقبل تفرده، وعلل بزيادته في التثبيت علىٰ غيره، وبأنه قد توبع علىٰ هذه الزيادة

وقد ذكرنا هذه الزيادة، ومن تابع مالكًا عليها في كتاب الزكاة، ولا تخرج بالمتابعة عن أن تكون زيادة من بعض الرواة، لأنَّ عامة أصحاب نافع لم يذكروها

وقد قال أحمد في رواية عنه: كنت أتهيب حديث مالك من المسلمين يعني حتىٰ وجده من حديث العمريين

قيل له: أمحفوظ هو عندك من المسلمين؟، قال: نعم.

وهذه الرواية تدل علىٰ توقفه في زيادة واحد من الثقات، ولو كان مثل مالك، حتىٰ يتابع علىٰ تلك الزيادة، وتدل علىٰ أن متابعة مثل العمري لمالك مما يقوي رواية مالك، ويزيل عن حديثه الشذوذ والإنكار.

وسيأتي فيما بعد ـ إن شاء اللَّه ـ عن يحيىٰ القطان نحو ذلك أيضًا

وكلام الترمذي ههنا يدل على خلاف ذلك وأن العبرة برواية مالك، وأنَّه لا عبرة ممن تابعه ممن لا يعتمد على حفظه

فالذي يدل عليه كلام الإمام أحمد في هذا الباب: إنَّ زيادة الثقة للفظة في حديث من بين الثقات إن لم يكن مبرزًا في الحفظ والتثبت علىٰ غيره ممن لم يذكر الزيادة ولم يتابع عليها، فلا يقبل تفرده

وإن كان ثقة مبرزًا في الحفظ على من لم يذكرها ففيه عنه روايتان، لأنَّه قال مرة في زيادة مالك من المسلمين: كنت أتهيبه حتى وجدته من حديث العمريين “

أقول: وليس الأمر علىٰ روايتين بل الإمام أحمد يُفهم حاله من حال شيوخه الذين أخذ عنهم علم الحديث كعبد الرحمن بن مهدي ويحيىٰ القطان رحمهما اللَّه

فالأمر لديهم علىٰ حسب القرائن فقد يترجح لديهم زيادة كبار الثقات وقد يترجح لديهم رواية الأكثر 

قال ابن أبي حاتم في مقدمته:

” ٣٦٧ - نا محمد بن إبراهيم بن شعيب، نا عمرو بن علي قال: سمعت سفيان بن زياد 

يقول ليحيىٰ في حديث أشعث بن أبي الشعثاء، عن زيد بن معاوية العبسي، عن علقمة، عن عبد اللَّه: ختامه مسك

فقال: يا أبا سعيد خالف أربعة، قال: من؟، قال: زائدة وأبو الأحوص وإسرائيل وشريك

قال يحيىٰ: لو كانوا أربعة آلاف مثل هؤلاء كان سفيان أثبت منهم

وسمعت سفيان بن زياد يسأل عبد الرحمن عن هذا، فقال عبد الرحمن: هؤلاء أربعة قد اجتمعوا، وسفيان أثبت منهم

والإنصاف لا بأس به “

فهنا خالف سفيان نفر ومع ذلك رجح يحيىٰ رواية الثقة الذي هو في أعلىٰ الدرجات، وسفيان لا شك آية في الحفظ والتثبت

وابن مهدي قال: هؤلاء أربعة قد اجتمعوا، فكأنَّه يشير لترجيح رواية الأكثر وإن كان سفيان أثبت منهم إذ هم أولىٰ بالحفظ حين اجتمعوا

فالظاهر أنَّ مذهب الأئمة في الزيادة والمخالفة إذا ما حصلت من إمام حافظ يصعب توهيمه ليس متكئًا علىٰ قاعدة مطردة بل بحسب ما يظهر لديهم وبحسب القرائن 

واللَّه العالم، هذا وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخلاف في صفة الهرولة...

دلالة الحس علىٰ الخالق وصفاته وأفعاله...

هل تثبت صفة البشبشة؟