ما داعي علم أصول الفقه وما فائدته...

بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:

فما داعي علم أصول الفقه وما ثمرته؟، وهل عرفه الصحابة كأبي بكر وعمر رحمهما اللَّه؟

والجواب: لما ظهرت مدارس فقهية سيئة ومناهج باطلة في التعامل مع النصوص الفقهية قام مقتضىٰ علم أصول الفقه

فمثلًا ظهرت مدرسة أهل الرأي وجعل أصحابها دليل القياس التبعي - أي تبعي للنص إذ هو لولاه لما وُجِدَ أصلًا - دليلًا أصليًّا قائمًا بنفسه

حتىٰ جاز عندهم معارضة النص أو الحديث به، وحتىٰ جاز عندهم الفزع إلىٰ القياس من دون استفراغ النظر في الأثر

وقالوا: خبر الواحد لا نقبله إن خالف القياس، وأما إن لم يكن الخبر خبر واحد فنقبله

ونحن نقول: الحديث والآية أصلان قائمان بنفسهما، فلا يقدم عليهما دليل تبعي، فكيف يعقل أن تعارض النص بشيء استُفِيدَ منه بالأساس؟

وهذا علىٰ فرض مخالفة الحديث أو الآية للقياس حقًّا

ونقول أيضًا: إنما القياس في الضرورات، وهو تبع فلا يصح أن يُفزَع عليه ويُنظَر إليه كأصل من قبل استفراغ النظر في الأصل الحقيقي الذي هو النص

ولهذا كان سفيان الثوري يقول في ذم إمام أهل الرأي: (كان أبو حنيفة نبطيًّا استنبط الأمور برأيه)، والاستنباط بالرأي والقياس واقع من الأئمة حتىٰ من سفيان

وإنما أراد سفيان رحمه اللَّه أنه يستنبط برأيه وقياسه من دون استفراغ النظر في الأدلة والنصوص من قبل حتىٰ أنه بسبب ذاك ضَعُفت عنايته بالأحاديث حتىٰ الأحاديث الكوفية فخالف ما خالف منها مع أن مخرجها من مصره

ولا عذر له بذلك وإن جهل الأدلة إذ ذاك نتاج تفريط وإعراض عن استفراغ النظر في النصوص التي مخرجها ظاهر في مصره

فالعذر بالجهل إنما هو في الجهل الاضطراري لا الاختياري الذي هو نتاج تفريط أو إعراض مع التمكن
 
وهذا الذي ذكرت من الرأي والقياس بمقابل الأثار أو من دون استفراغ النظر فيها هو الرأي والقياس المذموم

وجاءت بعد هذا مدرسة أهل الظاهر بمقابل مدرسة أهل الرأي ونفوا القياس وذاك لأنهم جعلوه دليلًا أصليًّا كما فعل أهل الرأي، ثم قالوا: حسبنا الكتاب والسنة وهما يكفيان

والقياس أصلًا قد يخالف النص في كذا وكذا وكذا وكذا، فإذًا هو باطل لا يعتد به

ونحن نقول: القياس دليل تبعي فهو مستفاد من النصوص، وليس هو شيئًا قائمًا بنفسه أمام الكتاب والسنة حتىٰ يقال: يكفي الكتاب والسنة ولا نحتاجه

بل هو أصلًا أمر مأخوذ من الكتاب والسنة فهو من كفاية النصوص وكمالها

وعلىٰ فرض مخالفة القياس النصَ في غير موضع فلا إشكال إذ هو دليل تبعي أصلًا 

فشرطه أن لا يقوم دون تقدم النصوص عليه، فإنما يستفاد منه ما لم يخالف النصوص 

طيب فلما ظهرت مثل هذه الأمور يعني مدارس فقهية سيئة عندها خلل في الأصول الفقهية أو في كيفية توظيفها والاستفادة منها

وكذا لما ظهرت انحرافات في التعامل مع النصوص الفقهية التفصيلية

قام مقتضىٰ علم أصول الفقه فجاء ليعلم الناس الأصول الفقهية وكيفية توظيفها والاستفادة منها علىٰ وجهها أو شروطها 

وكذا جاء ليعلمهم كيفية استفادة الأحكام الفقهية من أدلتها بدراسة دلالات الألفاظ وأحكامها من مجمل ومبين وعموم وخصوص إلخ

فأصول الفقه منهجية عامة للتعامل مع النصوص، وهذا العلم ينفع المرء حتىٰ في باب الاعتقاد 

وعامة الأصول التي تذكر في هذا العلم إجماعية إلا بعضها ففيها نزاع

طيب فإن قيل: هل عرف أبو بكر وعمر رحمها اللَّه أصول الفقه؟

قلنا: لا لم يعرفه كل الصحابة كما نعرفه إذ لم يقم مقتضاه آنذاك

وهذا كما نقول في علم النحو أنه لم يعرفه العرب من قبل بطريقته المعروفة إذ لم يقم مقتضاه من قبل

فلما ظهرت العجمة واختلطت الألسنة قام مقتضىٰ علم النحو، فجاء العلماء وأخذوا من كلام العرب المتفق القواعد المتفق عليها، وهناك بعض القواعد مختلف عليها 

ولا شك أن مضمون تلك القاعدة وفائدتها يعرفه العربي من قبل طبعًا

فالعربي من قبل وإن لم يعرف قاعدة أن اسم كان معرب مرفوع وخبرها معرب منصوب بهذه الطريقة إلا أنه يعرف أن اسم كان يُقرَأ بالضم لا الكسر ولا الفتح وخبرها يُقرَأ بالفتح لا غير

وكذلك في علم أصول الفقه لما ظهر ما ذكرنا قام مقتضىٰ هذا العلم

فجاء الأصوليون وأخذوا القواعد المتفق عليها التي مشىٰ عليها الفقهاء في مواطن الوفاق وأثبتوها، وهناك مواطن خلاف لم يُتفَق فيها علىٰ قاعدة عامة

ولا شك أن مضمون أصول الفقه وفائدته الصحيحة معروفة عند الصحابة والفقهاء من قبل ولكن جاء هذا العلم بصورنه لقيام مقتضاه الذي ذكرناه

وتبقىٰ هاهنا فائدة لطلاب العلم وهي أن عامة أحكام الفقه أصلًا إجماعية

وذاك لأن المسائل النزاعية والاجتهادية عادة ما تُبنَىٰ أصلًا علىٰ عدة أمور مسبقة إجماعية

قال أبو العباس ابن تيمية في الاستقامة [٥٩ - ٦٠]:

” فإن قال قائل مسائل الاجتهاد والخلاف في الفقه كثيرة جدًّا في هذه الأبواب

قيل له مسائل القطع والنص والإجماع بقدر تلك أضعافاً مضاعفةً

وَإِنَّمَا كثرت لِكَثْرَة أَعمال الْعباد وَكَثْرَة أَنْوَاعهَا فَإِنَّهَا أَكثر مَا يعلمه النَّاس مفصلًا وَمَتىٰ كثر الشيء إِلَىٰ هَذَا الْحَد كَانَ كل جُزْء مِنْهُ كثيرًا من ينظرها مَكْتُوبَة فَلَا يرتسم فِي نَفسه إِلَّا ذَلِك

كَمَا يطالع تواريخ النَّاس والفتن وَهِي مُتَّصِلَة فِي الْخَبَر فيرتسم فِي نَفسه أَن الْعَالم مَا زَالَ ذَلِك فِيهِ متواصلًا والمكتوب شيؤ وَالْوَاقِع أَشْيَاء كَثِيرَة فَكَذَلِك أَعمال الْعباد وأحكامها وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ ذَلِك “

وعليه فليركز طالب الفقه علىٰ المسائل الإجماعية والاتفاقية قبل المسائل النزاعية

إذ المسائل من النصف الأول هي التي يبنىٰ عليها المسائل النزاعية عادة 

ولأن معرفة المتفق عليه أولىٰ وأشد فائدة من معرفة الأمر المختلف عليه وهي المسائل الأكثر فمعرفتها أهم من معرفة المسائل النزاعية

هذا وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخلاف في صفة الهرولة...

دلالة الحس علىٰ الخالق وصفاته وأفعاله...

هل تثبت صفة البشبشة؟