بدعة الجهمية ليست كباقي البدع...
بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:
قال عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه علىٰ المَريسي [٤٣ - ٤٤]:
” افْتَتَحَ هَذَا المُعَارِضُ كِتَابَهُ بِكَلَامِ نَفْسِهِ مُثَنِّيًا بِكَلَام المَرِيسِيِّ، مُدَلِّسًا عَلَىٰ النَّاسِ بِمَا يَهمُ أَنْ يَحْكِيَ وَيُرِي مَنْ قِبَلَهُ مِنَ الجُهَّالِ وَمَنْ حَوَالَيْهِ مِنَ الأَغْمَارِ، أَنَّ مَذَاهِبَ جَهْمٍ وَالمَرِيسِيِّ فِي التَّوْحِيدِ:
كَبَعْضِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الإِيمَانِ فِي القَوْلِ وَالعَمَلِ، وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّشَيُّعِ وَالقَدَرِ، وَنَحْوِهَا كَيْ لَا ينفرُوا مِنْ مَذَاهِبِ جَهْمٍ وَالمَرِيسِيِّ أَكْثَرَ مِنْ نُفُورِهِمْ مِنْ كَلَامِ الشِّيعَةِ والمُرْجِئَةِ والقَدَرِيَّةِ.
وَقَدْ أَخْطَأَ المُعَارِضُ مَحَجَّةَ السَّبِيلِ، وَغَلَطَ غَلَطًا كَثِيرًا فِي التَّأْوِيلِ، لما أَنَّ هَذِهِ الفِرَقَ لَمْ يُكَفِّرْهُمُ العُلَمَاءُ بِشَيْءٍ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ، وَالمَرِيسِيُّ وَجَهْمٌ وأصحابُهم؛ لَمْ يَشُك أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي إِكْفَارِهِمْ
(٣) - سَمِعْتُ مَحْبُوبَ بْنَ مُوسَىٰ الأَنْطَاكِيَّ، أَنَّهُ سَمِعَ وَكِيعًا يُكَفِّرُ الجَهْمِيَّةَ
(٤) - وَكَتَبَ إِلَيَّ عَلِيٌّ بْنِ خَشْرَمٍ، أَنَّ ابْنَ المُبَارَكِ كَانَ يُخْرِجُ الجَهْمِيَّةَ مِنْ عِدَادِ المُسْلِمِينَ
(٥) وَسَمِعْتُ يَحْيَى بنَ يَحْيَىٰ، وَأَبَا تَوْبَةَ، وَعلي بن المَدِينِيِّ: يُكَفِّرُونَ الجَهْمِيَّةَ، وَمَنْ يَدَّعِي أَنَّ القُرْآنَ مَخْلُوقٌ.
فَلَا يَقِيسُ الكُفْرَ بِبَعْضِ اخْتِلَافِ هَذِهِ الفِرَقِ إِلَّا امْرُؤٌ جَهِلَ العِلْمَ وَلَمْ يُوَفَّقْ فِيهِ لِفَهْمٍ “
أقول: فما أكثر من جهل العلم، ولم يوفقه فيه لفهم، إذ تأتي تتحدث عن متأخري الأشاعرة المريسية، فيقال لك: قتادة قدري وممدوح!، عكرمة خارجي!، فلان مرجئ وقيل فيه كذا وكذا!
سبحان اللَّه، ذكر هؤلاء بكل حال لا ينفع بشيء، إذ لا يقيس الكفر باختلاف تلك الفرق من مرجئة وقدرية وغيرهم إلا كل جهول!
فهناك فرق بين بدعة المعطلة المكفرة وبين البدع المفسقة
وهناك فرق بين الداعية وبين غيره، فقتادة مثلًا بنص أحمد لم يكن داعيةً، فلا يقاس هذا علىٰ أشعري مصنف بنصرة التجهم
وهناك فرق بين من ثبتت بدعته بيقين وبين من في ثبوت بدعته خلاف ونزاع
فقتادة مثلًا في نسبة القدر إليه خلاف قوي، وقد برئه البخاري في خلق أفعال العباد، وهناك غير هذا
وعكرمة صنف في الذب عنه الطبري ومحمد بن نصر المروزي من السلف، وثبت عن أيوب السختياني كما في العلل لعبد اللَّه بن أحمد أنه لم يكن يتهم عكرمة رحمه اللَّه
وهاك أمر قد يُؤتَىٰ منه بعض الأئمة، وهو خفاء نسبة البدعة أو الضلالة علىٰ من أثنوا عليه أو رووا عنه عندهم
ولهذا لا يلزم من ثناءهم وروايتهم تهوين مخالفة المُثنَىٰ عليه أو قبول الرواية عنه وهو داعية أو صاحب بدعة غليظة
ومن ذلك ما ذكره عثمان الدارمي في تاريخه عن ابن معين، فقال:
( ٢٩٣ - وَإِسْحَاق بن أبي إِسْرَائِيل ثِقَة
قالَ أَبُو سعيد: لم يكن إِسْحَاق بن أبي إِسْرَائِيل أظهر الْوَقْف حِين سَأَلت يحيىٰ عَنهُ، وَهَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي ظَهرت عَلَيْهِ بعد، وَيَوْم كتبنَا عَنهُ كَانَ مَسْتُورًا )
فهذا كذلك غير أن هناك فرقًا بين التبديع والتكفير، فأما التبديع، فلا يجادل فيه أحد أنه واقع علىٰ المرجئ والقدري والخارجي وكل مخالف عقدي يخالف في الأصول
قال ابن قتيبة في مختلف الحديث: (ولو كان اختلافهم في الفروع والسنن، لاتسع لهم العذر عندنا، وإن كان لا عذر لهم، مع ما يدعونه لأنفسهم كما اتسع لأهل الفقه، ووقعت لهم الأسوة بهم.
ولكن اختلافهم، في التوحيد، وفي صفات اللَّه تعالىٰ، وفي قدرته، وفي نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وعذاب البرزخ، وفي اللوح، وفي غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبي إلا بوحي من اللَّه تعالىٰ)
وقال عمن يخالف أهل الحديث في شيء من أصولهم: (لا يختلفون في هذه الأصول، ومن فارقهم في شيء منها نابذوه وباغضوه وبدعوه وهجروه)
ولو كان المخالف العقدي غير محكوم عليه لما كان لتمييز العقيدة عن غيرها أي معنى فكل المسائل قد لا يقع فيها حكم علىٰ هذا
وكلمة مرجئ أو خارجي أو قدري إلخ، هذه الكلمات إنما معناها التبديع والتضليل، وذلك أنك تجد الأئمة يذمون بألفاظ مثل: مرجئ، قدري، وما أشبه ذلك
فمثلًا قال الإمام أحمد عن سالم بن غيلان الأفطس: ( كان ثقة بالحديث، ولكنه مرجئ )
فذمه بلفظ: مرجئ، ولم يقل: ولكنه مبتدع، إذ أن قولك عن رجل: إنه مرجئ، إنما معناه الذم والتبديع
وليعلم أن المرء قد يجتمع فيه موجب مدح، وموجب ذم
فيُمدح مدحًا لا يناقض الطعن لموجبه في حال أمن الفتنة والاغترار بالمدح ببيان أو تحذير
فمثلًا قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: (أنا عبد اللًَه بن أحمد بن حنبل فيما كتب إلي، قال: قال أبي: عبد العزيز بن أبي رواد رجل صالح، وكان مرجئًا)
فمدحه بالصلاح، وذمه بالإرجاء
والمدح لموجب والثناء لموجب أخر هذا لا ينفي بالضرورة الذم والتبديع أو حتىٰ السخطة والغضب عند اللَّه ورسوله لموجب ذلك
وقد قال ابن تيمية في التحفة العراقية:
( وأما الظالم لنفسه من أهل الإيمان فمعه من ولاية اللَّه بقدر إيمانه، كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره، إذ الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب، والسيئات المقتضية للعقاب، حتىٰ يمكن أن يثاب ويعاقب
وهذا قول جميع أصحاب رسول اللَّه ﷺ وأئمة الإسلام )
ثم ذكر قصة الصحابي الذي كان يشرب الخمر مع حبه للَّه سبحانه ورسوله ﷺ، وقال: (فهذا يبين أن المذنب بالشرب وغيره قد يكون محبًا للَّه ورسوله، وحب اللَّه ورسوله - ﷺ - أوثق عرىٰ الإيمان)
ثم قال:
( كما أن العابد الزاهد قد يكون لما في قلبه من بدعة ونفاق مسخوطًا من ذلك الوجه عند اللَّه ورسوله )
ثم ضرب مثالًا بالخوارج، وهذا منه حسن رحمه اللَّه، ففي هذا بيان أن الحسنات قد تجتمع مع السيئات
فالمبتدع العابد الزاهد أو الحسن الألفاظ بالعلم أو غير ذلك الذي له حسنات مقتضية للثواب وموجبة للمدح - مع أمن الفتنة من المدح - كذلك له سيئات مقتضية للعقاب وموجبة للسخط عند اللَّه ورسوله ﷺ وللذم بالتبديع والتفسيق
فلا يُدفَع هذا بذاك ولا ينفع أمام البدعة اجتهاد ولا حسن ألفاظ بالعلم
قال الآجري في الشريعة:
” ٤٦ - حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ أَيْضًا قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُقْرِئِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَذُكِرَ لَهُ الْخَوَارِجُ وَاجْتِهَادُهُمْ وَصَلَاتُهُمْ، قَالَ: لَيْسَ هُمْ بِأَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ ”
هذا ثابت عن ابن عباس عليهما السلام
وقد قال الآجري:
” لَم يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَنَّ الْخَوَارِجَ قَوْمُ سُوءٍ عُصَاةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ ﷺ وَإِنْ صَلَّوْا وَصَامُوا وَاجْتَهَدُوا فِي الْعِبَادَةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَافِعٍ لَهُمْ
وَيُظْهِرُونَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَافِعٍ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ يَتَأَوَّلُونَ الْقُرْآنَ عَلَىٰ مَا يَهْوُونَ، وَيُمَوِّهُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ”
وقال:
” فَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ رَأَى اجْتِهَادَ خَارِجِيٍّ قَدْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ عَدْلًا كَانَ الْإِمَامُ أَوْ جَائِرًا، فَخَرَجَ وَجَمَعَ جَمَاعَةً وَسَلَّ سَيْفَهُ، وَاسْتَحَلَّ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغْتَرَّ بِقِرَاءَتِهِ لِلْقُرْآنِ، وَلَا بِطُولِ قِيَامِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا بِدَوَامِ صِيَامِهِ، وَلَا بِحُسْنِ أَلْفَاظِهِ فِي الْعِلْمِ إِذَا كَانَ مَذْهَبُهُ مَذْهَبَ الْخَوَارِجِ ”
هذا والمبتدع معرض لحبوط الأعمال وردها بحيث لا يُقبَل منه أساسًا وأصلًا
وهذا وارد في كلام السلف، ووجه الأمر أن حبوط العمل لا يكون بالكفر فقط فمن الذنوب والمخالفات ما يحبط الأعمال
هذا غير أن حبوط العمل بغير الكفر ناقص، وبالكفر تام فلا يقبل معه أي عمل حتىٰ قول الشهادتين
قال ابن رجب في تفسيره:
” وتبويبُ البخاريِّ لهذا البابِ يناسبُ أن يُذكرَ فيه حبوطَ الأعمالِ الصالحةِ ببعضٍ الذنوبِ كما قال تعالىٰ: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِي وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكمْ وَأَنتمْ لا تَشْعُرُونَ)
قال الإمامُ أحمدُ: حدثنا الحسنُ بنُ موسى، قالَ: ثنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن حبيب بنِ الشهيد، عن الحسنِ، قالَ: ما يرى هؤلاءِ أن أعمالاً تحبطُ أعمالاً، واللًّهُ عزَّ وجلًّ يقولُ: (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ) إلى قوله: (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ)
وما يدل علىٰ أن هذا - أيضًا - قولُ اللَّهِ عزَّ وجل: (يَا أَيهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى)، الآية.
وقال: (أَيَوَدُّ أَحَدُكم أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ من نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ)، الآية.
وفي صحيح البخاريِّ أن عمر سألَ الناسَ عنها، فقالُوا: اللَّه أعلمُ.
فقال ابنُ عباس: ضربتْ مثلاً لعمل. قال عمرُ: لأيِّ عملٍ؟
قال ابنُ عباسٍ: لعملٍ. قال عمرُ: لرجل غني يعملُ بطاعةِ اللَّهِ، ثم يبعثُ اللَّهُ إليه الشيطان، فيعملُ بالمعاصي حتى أغرقَ أعمالَه.
وقال عطاء الخراساني: هو الرجلُ يختمُ له بشركٍ أو عملِ كبيرةٍ، فيحبطُ عملَه كلَّه.
وصحَّ عن النبيِّ ﷺ أنَّه قال: من ترك صلاةَ العصرِ حبطَ عملُهُ
وفي "الصحيح أيضًا: إنَّ رجلاً قال: واللَّهِ لا يغفرُ اللَّهُ لفلانٍ، فقالَ اللَّهُ: من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفرَ لفلانٍ، قد غفرتُ لفلانٍ وأحبطتُ عملَك
وهذا يدلُّ على أن بعضَ السيئاتِ تحبطُ بعضَ الحسناتِ، ثم تعودُ بالتوبةِ منها. ”
وقد قال تعالىٰ: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا أَطيعُوا اللَّهَ وَأَطيعُوا الرَّسولَ وَلا تُبطِلوا أَعمالَكُم)
وهذا دال علىٰ أن خلاف رسول اللَّه ﷺ في طاعته مبطل للأعمال
وكل مبتدع مخالف في طاعة الرسول بالاعتقاد المأثور عنه ﷺ
وقال رسول اللَّه ﷺ: ( من لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس للَّه حاجة يأن يدع طعامه وشرابه )
وكل مبتدع قائل بالزور إذ ينسب ضلالته وبدعته العقدية إلىٰ الدين، فلا حاجة للَّه في صيامه وعمله
ولهذا فالبدعة عند السلف مما يُعرَّض المرء لحبوط العمل
هذا وكلام الشيخ ابن تيمية رحمه اللَّه في المبتدع الذي بدعته غير مكفرة، ولهذا ضرب مثالًا بالخوارج
وإلا فالذي بدعته مكفرة ويكفر بها، فهذا حسناته تذهب هباءً منثورًا، فلا شيء له، وفي أقل الأحوال فهو واقع بكفر فلا يكاد يسلم
ومن الغلط أن يُؤتَىٰ بحسنات ظاهرة لصاحب بدعة مكفرة ليُدفَع بذلك عنه التكفير
فهذا لا معنىٰ له إذ إذ أن الكفر قاضٍ بحبوط الحسنات وذهاب نفعها
فكيف يُستَدل علىٰ نفي التكفير بنفي التكفير أي بالحسنات التي تعني انتفاء التكفير؟
ومن يجعل المدح لموجب نافيًا ودافعًا للذم والتضليل والتبديع لموجب فقد غلط
وإنما هذا إذا كان موجب المدح مضادًا لموجب الذم والتبديع كأن يكون موجب المدح السنية، وموجب الذم والتبديع بدعة مفسقة كبدعة الإرجاء مثلًا
وهنا لا بد من ترجيح لأحد الموجبين إذ لا يمكن اجتماعهما بنفس الشخص
هذا وأقبح مما ذكرت سابقًا من القياس أن يقاس المعطل في بدعته المكفرة علىٰ المخطئ في خطأه!!، وهذا قياس غير معقول ولا مقبول
قال عثمان الدارمي في نقضه: ( لأن من كفر ليس كمن أخطأ، ولا هما في الإثم والعار سواء )
واللَّه المستعان، هذا وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد
تعليقات
إرسال تعليق