قاعدة في باب الصفات الإلهية...
بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:
قال الإمام أبُو سعيدٍ الدارمي في نقضه [٦١]:
” ثُمَّ طَعَنَ المُعَارِضُ فِي رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَىٰ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيَرُدَّهُ بِتَأْوِيلِ ضَلَالٍ وَبِقِيَاسِ مُحَالٍ، فَقَالَ: لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ فَتَسْتَوْصِفَهُ “
ثم قال ردًّا علىٰ هذه الجهالة رحمه اللَّه [٦٣ - ٦٤]:
” وَأما قولك: وَلَمْ تَرَهُ عَيْنٌ فَتَسْتَوْصِفَهُ، فَلَوِ احْتَجَّ بِهَذَا صَبِيٌّ صَغِيرٌ لَمْ يَزِدْ عَلَىٰ مَا قُلْتَ: جَهَالَةً.
أَفَرَأَى أَهْلَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَا فِيهِمَا بِعَيْنِهِ فَيَسْتَوْصِفَهُ؟!، وَهَلْ يَصِفُهُمَا وَيَصِفُ مَا فِيهِمَا إِلَّا بِمَا وَصَفَهُمَا اللَّه فِي كِتَابِهِ:
أَنَّ فِي الجَنَّةِ حُورًا عِينًا، وَطَعَامًا وَشَرَابًا، وأنهارًا، وَنَخْلًا، ورمانًا، وشجرًا، وقصورًا مِنْ دُرٍّ وَيَاقُوتٍ، وَلِبَاسًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ، وَحِريرًا وَمَا أَشْبَهَهَا
وكَذَلِكَ النَّارُ فِيهَا أَنْكَالٌ وَقُيُودٌ وَمَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ، وَأَغْلَالٌ، وَسَلَاسِلُ، وَحَمِيمٌ، وَزَقُّومٌ.
أَفَتَصِفُ الجَنَّةَ وَالنَّارَ أَيُّهَا المُعَارِضُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ عَمَّنْ رَآهَا بِعَيْنِهِ، أَوْ عَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَأَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ؟، وَكَذَلِكَ تَصِفُ رُؤْيَةَ اللَّهِ وَتُفَسِّرُهَا عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ، وَإِنْ لَمْ ترَهُ عَيْنٌ تَسْتَوْصِفُهُ “
وهذا الكلام يتضمن قاعدةً جليلةً معقولةً في باب الصفات الإلهية الغيبية
وهذه القاعدة: أنك تصف الشيء الغيبي عن طريق الخبر وإن لم تر بعينك الشيء بصفاته مع تفويضك في الكيفية
فكما أنك تصف الجنة والنار بما أخبر اللَّه سبحانه وتعالىٰ وإن لم تراهما بعينيك مع تفويض الكيفية
فكذلك تصف اللَّه سبحانه بما أخبر عن نفسه من الصفات وإن لم تر بعينيك الموصوف بصفاته مع تفويض الكيفية
ومن فعل هذا في حق صفات الجنة والنار وهما من الغيب ثم خالف هذا السبيل في حق صفات الباري سبحانه وهو من الغيب فقد تناقض واختلف قوله
وكما أن صفات الجنة والنار التي قد يوصف بمثلها ما في الدنيا:
مباينة في كيفيتها وفي معناها لما في الدنيا من الصفات وإن وقع اشتراكٌ في التسمية وفي أصل المعنىٰ
فكذلك صفات اللَّه جل وجهه التي قد يوصف بمثلها الخلق أو بعضهم:
مباينة لصفات المخلوقات في كيفيتها ومعناها مع الاشتراك في التسمية وفي أصل معنىٰ الصفة
فهناك في الصفات المشتركة قدر مشترك وهناك قدر فارق، وهذا لا يقتضي التشبيه لوجود القدر الفارق
فالأسماء متفقة والمعاني متباينة وإن كان الأصل مشتركًا فيه
قال ابن أبي حاتم في تفسيره:
” حدثنا أبو سنان الواسطي، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء “
وقال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن عن صفات النار وما فيها:
” وإنّما دلنا اللَّه سبحانه علىٰ الغائب عنده بالحاضر عندنا، فالأسماء متفقة الدلالة والمعاني مختلفة ”
وكذلك التسمية في باب الصفات الإلهية متفقةٌ ومتشابهةٌ وهذا لا يقتضي التشبيه كما لا يقتضي ذلك في شأن الجنة والنار:
إذ الكيفية مختلفةٌ وكذا المعاني مع الاشتراك في أصل المعنىٰ
قال أبُو سعيدٍ الدارمي في نقضه علىٰ المَريسي [١٠٧]:
” وَيْلَكَ!، إِنَّمَا نَصِفُهُ بالأسماء لَا بالتَّكْيِيفِ وَلَا بِالتَّشْبِيهِ، كَمَا يُقَالُ: إِنَّهُ مَلِكٌ كَرِيمٌ، عَلِيمٌ، حَكِيمٌ، رَحِيمٌ، لَطِيفٌ، مُؤْمِنٌ، عَزِيزٌ، جَبَّارٌ، مُتَكَبِّرٌ.
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُدْعَىٰ البَشَرُ بِبَعْضِ هَذِهِ الأَسْمَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِصِفَاتِهِمْ، فَالأَسْمَاءُ فِيهَا مُتَّفِقَةٌ، وَالتَّشْبِيهُ وَالكَيْفِيَّةُ مُفْتَرِقَةٌ، كَمَا يُقَالُ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الجَنَّةِ إِلَّا الأَسْمَاءَ، يَعْنِي فِي الشَّبَهِ وَالطَّعْمِ وَالذَّوْقِ، وَالمَنْظَرِ، وَاللَّوْنِ
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَاللَّه أَبْعَدُ مِنَ الشَّبَهِ وَأَبْعَدُ. “
هذا وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد
تعليقات
إرسال تعليق