اختلاف التنوع في التفسير

بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:

فهذه بعض القواعد في اختلاف التفسير لعل اللَّه جل وجهه ينفع بها، وباللَّه التوفيق والسداد

قال ابن قتيبة في تَأوِيل مُشكِل القرآن [١٣٧]:

” قيل له: الاختلاف نوعان: اختلاف تغاير، واختلاف تضاد

اختلاف التضاد لا يجوز، ولست بواجده في شيء من القرآن إلَّا في الأمر والنَّهي من الناسخ والمنسوخ

واختلاف التغاير: جائز “

وهذا تبيين مبدئي لنوعي الاختلاف قبل بيان أنواع اختلاف التنوع تفصيلًا

قال تعالىٰ: {أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ وَلَو كانَ مِن عِندِ غَيرِ اللَّهِ لَوَجَدوا فيهِ اختِلافًا كَثيرًا}

والمراد بالاختلاف في الآية الكريمة اختلاف التضاد والتناقض لا اختلاف التنوع، فهذا في القرآن كثير، وهو أمر قد عُقِلَ حكمته ونفعه

قال ابن أبي حاتم في تفسيره:

” ٥٦٨٠ - حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُنْكَدِرِ يَقُولُ وَقَرَأَ: 

{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيرًا}، فَقَالَ: إِنَّمَا يَأْتِي الاخْتِلافُ مِنْ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَأَمَّا مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلافٌ ”

هذا إسناد طيب والراوي عن كاتب الليث إمام لا يروي المناكير التي تُدخَل عليه 

وليُعلم أن عامة تفاسير السلف يكون الاختلاف فيها من باب اختلاف التنوع، وتفصيل هذا الاختلاف سيأتي إن شاء اللَّه

قال محمد بن نصر المروزي في السنة:

” وقَدْ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لَيْسَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ اخْتِلَافٌ إِذَا صَحَّ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ ”

يريد: ليس فيه اختلاف تضاد، وهذا محمول علىٰ الغالب، فقد يختلف المفسرون اختلاف تضاد في أحيان

وقال محمد بن نصر أيضًا: ” قَالَ إِسْحَاقُ: وَجَهِلَ قَوْمٌ هَذِهِ الْمَعَانِيَ، فَإِذَا لَمْ تُوَافِقِ الْكَلِمَةُ الْكَلِمَةَ قَالُوا: هَذَا اخْتِلَافٌ ”

قال ابن تيمية في مقدمة التفسير:

” والخلاف بين السلف في التّفسير قليلٌ، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير

وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلىٰ اختلاف تنوع لا تضاد، وذلك صنفان:

- أحدهما أن يُعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبة تدل علىٰ معنىٰ في المسمَّىٰ غير المعنىٰ الآخر مع اتحاد المسمَّىٰ

بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة كما قيل في اسم السيف: الصارم والمهند

وذلك مثل أسماء اللَّه الحسنىٰ، وأسماء رسوله ﷺ، وأسماء القرآن

فإن أسماء اللَّه كلها تدل على مسمىٰ واحد فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضادًا لدعائه باسم آخر

بل الأمر كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَىٰ}

إذا عرف هذا، فالسلف كثيرا ما يعبرون عن المسمىٰ بعبارة تدل علىٰ عينه، وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر، كمن يقول:

أحمد هو الحاشر والماحي والعاقب. والقدوس هو الغفور، والرحيم، أي أن المسمىٰ واحد، لا أن هذه الصفة هي هذه الصفة

ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس

مثال ذلك: تفسيرهم للصراط المستقيم، فقال بعضهم: هو القرآن أي أتباعه، لقول النبي ﷺ في حديث علي الذي رواه الترمذي، ورواه أبو نعيم من طرق متعددة:

” هو حبل اللَّه المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم “

وقال بعضهم: هو الإسلام؛ لقوله ﷺ في حديث النواس ابن سمعان الذي رواه الترمذي وغيره:

” ضرب اللَّه مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعلىٰ جنبتي الصراط سُورَان، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلىٰ الأبواب ستور مرخاة، وداع يدعو من فوق الصراط، وداع يدعو علىٰ رأس الصراط ”

قال: ” فالصراط المستقيم هو الإسلام، والسوران حدود اللَّه، والأبواب المفتحة محارم الله، والداعي علىٰ رأس الصراط كتاب اللَّه، والداعي فوق الصراط واعظ اللَّه في قلب كل مؤمن 

فهذان القولان متفقان: لأن دين الإسلام هو إتباع القرآن، ولكن كل منهما نبه علىٰ وصف غير الوصف الآخر

وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة، وقول من قال: هو طريق العبودية، وقول من قال: هو طاعة اللَّع ورسوله ﷺ، وأمثال ذلك 

فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها. ”

مختصر الكلام: إن من تنوع الاختلاف لا التضاد أن يذكر أو يفسر المرء المُسمىٰ بعبارة تخالف عبارة غيره مع اتحاد المسمىٰ، فالعبارات في دلالتها علىٰ المسمىٰ متحدة

وفي دلالتها علىٰ معنىً معين أو صفة خاصة في المسمىٰ مفترقة

ومثال ذلك قوله تعالىٰ: {اهدنا الصراط المستقيم}، فإن قيل: إن الصراط المستقيم هو القرآن والسنة، أو قيل: هو الأنبياء، أو قيل: هو المسلمون

ما كان في هذا اختلاف تضاد لأن المسمىٰ واحد، فكل المذكور هو الصراط المستقيم 

ومع ذلك فكل مذكور يدل علىٰ صفة خاصة في المسمىٰ، وهذا هو وجه الاختلاف

ومن أمثلة هذا النوع أيضًا: تفسير المقام المحمود في قوله تعالىٰ: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}، بالشفاعة وبإجلاس النبي ﷺ علىٰ العرش

فهذان القولان لا يتناقضان، وذاك لأن إجلاس النبي ﷺ هو مقام محمود والشفاعة هي مقام محمود

فالمسمىٰ واحد، وإنما اختلفت صفة وحقيقة المقام المحمود فمرة كانت بالإجلاس ومرة كانت بالشفاعة كما اختلفت ضفة الصراط المستقيم فمرة كانت هي القرآن ومرة كانت هي السنة

وتفسير المقام المحمود بالشفاعة ثابت عن الإمام مجاهد وأجمع علىٰ قوله السلف الكرام فلا عبرة بمن خالفهم 

قال أبو بكر المروذي كما في السنة للخلال:

” وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: الْإِيمَانُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَالتَّسْلِيمُ لَهُ “

والآن نكمل ما كنا فيه، قال ابن تيمية في مقدمة التفسير:

” الصنف الثاني: أنّ يذكر كُلًّا منهم في الاسم العام بعض أنواعه، وتنبيه المستمع علىٰ النوع لا علىٰ سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه

مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى لفظ الخبر، فأُري رغيفاً، وقيل: هذا، فالإشارة إلىٰ نوع هذا لا إلىٰ الرغيف وحده

مثال ذلك: ما نقل في قوله: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات}

فمعلوم أنَّ الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات، والمنتهك للمحرمات، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات، والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات

ثم إن كُلًّا منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات، كقول القائل: السابق الذي يصلي في أول الوقت، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلىٰ الاصفرار

ويقول الآخر: فالسابق المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات، والظالم آكل الربا أو مانع الزكاة، والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة، ولا يأكل الربا، وأمثال هذه الأقاويل

فكل قول فيه ذكر نوع داخل في الآية ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له وتنبيهه به علىٰ نظيره “

مختصر الكلام: إن من اختلاف التنوع أن يكون اللفظ عامًا - يعني من حيث أن له أنواعًا مختلفة -

فيُذكر نوع معين تارةً في تفسير اللفظ ويذكر نوع أخرىٰ معين تارةً في تفسير اللفظ، وهكذا

وهذا ليس باختلاف تناقض إذ اللفظ عام يحتمل كل هذه الأنواع، ومثال ذلك قوله تعالىٰ: {فمنهم ظالم لنفسه}

فإن قيل: هو مؤخر الصلوات، وقيل: هو آكل الربا، وقيل: هو الذي يفعل كذا وكذا 

ما كان في هذا تناقض إذ الظلم لفظ عام يشمل كل هذه الأنواع، وذكر نوع من أنواع اللفظ العام إنما هو تنبيهٌ علىٰ دخول هذا النوع بالعموم، وتنبيهٌ علىٰ دخول نظيره من باب القياس

قال ابن تيمية في مقدمة التفسير:

” وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير

تارة لتنوع الأسماء والصفات، وتارة لذكر بعض أنواع المسمىٰ وأقسامه كالتمثيلات: هما الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف “

ونكمل إن شاء اللَّه بعد هذا الكلام كله في بيان بعض أنواع اختلاف التنوع التي لم نذكرها بعد

قال ابن تيمية في مقدمة التفسير:

” ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملًا للأمرين: إمَّا لكونه مشتركًا في اللفظ كلفظ: {قسورة}، الذي يراد به الرامي، ويراد به الأسد 

وإمَّا لكونه متواطئًا في الأصل، لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين

كالضمائر في قوله: {ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى}، وكلفظ {والفجر وليال عشر والشفع والوتر}، وما أشبه ذلك. 

فمثل هذا قد يراد به كل المعاني التي قالها السلف، وقد لا يجوز ذلك

 فالأول إمَّا لكون الآية نزلت مرتين فأريد بها هذا تارة وهذا تارة، وإمّاَ لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه:

إذ قد جوز ذلك أكثر الفقهاء المالكية، والشافعية، والحنبلية وكثير من أهل الكلام

وإمَّا لكون اللفظ متواطئًا فيكون عامًا إذا لم يكن لتخصيصه موجب، فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني. “

الاشتراك اللفظي يعني احتمال اللفظ لأكثر من معنىٰ مع اختلاف المعاني كليًّا عن بعضها البعض فلا يوجد قدر مشترك بين المعاني

مثال ذلك لفظ قسورة الذي يراد به تارةّ الأسد ويراد به تارةً الرامي

وفي مثل هذا أي الاشتراك اللفظي قد يراد كل الأقوال المذكورة وقد لا يراد ذلك، فإن وجد ما يرجح إحدىٰ المعاني أُخِذَ بالمرجح

وإلا فاللفظ صالح لكل المعاني، فيكون الاختلاف فيه من باب اختلاف التنوع 

والتواطؤ في اللفظ يعني أنَّ اللفظ والمعنىٰ متطابقان، كلفظ: مع، وكلفظ: هو، فالتواطؤ اللفظي إنْ كان له أكثر من نوع قد يراد به هذا وقد يراد به ذاك

فـ مع مثلًا تأتي علىٰ أنواع، فقد تأتي لمصاحبة المكان، وقد تأتي لمصاحبة العلم والرعاية، وقد تأتي لمصاحبة الاختلاط والامتزاح، وقد تأتي لغير ذلك 

فاللفظ المتواطئ العام إن لم يكن لتخصيصه موجب وكان صالحًا لكل الأنواع دخل الاختلاف فيه باختلاف التنوع

قال ابن تيمية في المقدمة:

” ومن الأقوال الموجودة عنهم ويجعلها بعض الناس اختلافًا أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة لا مترادفة

فإذا قال القائل: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا}، إن المور هو الحركة كان تقريبًا إذ المور حركة خفيفة سريعة

ومن قال: {لاريب}، لا شك، فهذا تقريب، وإلا فالريب فيه اضطراب وحركة، كما قال: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)

وفي الحديث أنه مر بظبي حاقف أي: نائم قد انحنىٰ في نومه فقال: (لا يريبه أحد)

فكما أن اليقين ضمن السكون والطمأنينة فالريب ضده ضمن الاضطراب والحركة. ولفظ الشك وإن قيل: إنه يستلزم هذا المعنىٰ، لكن لفظه لا يدل عليه.

وكذلك إذا قيل: {ذَلِكَ الْكِتَابُ}، هذا القرآن، فهذا تقريب

لأن المشار أليه وإن كان واحدا، فالإشارة بجهة الحضور غير الإشارة بجهة البعد والغيبة، ولفظ الكتاب يتضمن من كونه مكتوبّا مضمومًا ما لا يتضمنه لفظ القرآن من كونه مقروءًا مظهرًا باديًا

فهذه الفروق موجودة في القرآن، وجمع عبارات السلف في مثل هذا نافع جدًّا، فإن مجموع عباراتهم أدل علىٰ المقصود من عبارة أو عبارتين “

أقول: الكلام واضح ولا داعي لإكثار الكلام بشرح ما هو ظاهر إلا أن قوله الشيخ رحمه اللَّه بأن تفسير: {ذلك الكتاب}، بهذا الكتاب من باب التقريب متعقب

وذاك لأن لهذا الأمر مخرجًا صحيحًا مشهورًا في اللغة عند العرب فلا داعي لحمل الأمر علىٰ التقريب

ومن أراد أن يفهم فليراجع كلام الطبري في الباب فقد أبان وأجاد عليه الرحمة والرضوان

هذا وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخلاف في صفة الهرولة...

دلالة الحس علىٰ الخالق وصفاته وأفعاله...

هل تثبت صفة البشبشة؟