هل تفسيرها قراءتها تفويض؟

بسم اللَّه وبه أستعين وبلطفه أقصد والصلاة والسلام علىٰ رسوله الأمين، وبعد:

فيحتج بعض المفوضة بما رواه البيهقي في الأسماء والصفات فقال:

” ٧٢٥ - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَمْشٍ، سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الْأَزْهَرِيَّ، سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ يَعْقُوبَ الطَّالْقَانِيَّ، سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ:

كُلُّ مَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَىٰ مِنْ نَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ فَتَفْسِيرُهُ تِلَاوَتُهُ وَالسُّكُوتُ عَلَيْهِ “

فجعلوا قوله: ”تفسيره تلاوته“، تفويضًا

وقالوا: السلف لم يفسروا نصوص الصفات لقوله: ”والسكوت عليه“

أقول: قول سفيان بن عيينة: ”كل“، ناقض علىٰ القوم

فالأشعرية لا يفوضون كل الصفات، وإنما يفوضون بعضها

والرواية بكل حال لا تثبت إذ لا يسلم لها طريق

فالرواية لها سند فيه راوٍ يقال له: محمد بن إبراهيم بن حمش، وهو متهم

ولها سند فيه راوٍ يقال له: محمد بن يزيد المعدل، وهو غير موثق في ضبطه وحفظه

وهذا الكلام مستفاد من الشيخ الخليفي فجزاه اللَّه خيرًا

وأما من حيث ثبوت هذه المقالة: "قراءتها تفسيرها“، فهي ثابتة عن السلف عندنا

ولكن هل المراد بها التفويض حقًّا؟

قال الدارقطني في كتاب الصفات:

” ٦١- حدثنا محمد بن مخلد، حدثنا عيسىٰ بن إسحاق بن موسىٖ الأنصاري، قال: سمعت أبي يقول: سمعت سفيان بن عيينة يقول:

كل ما وصف اللَّه به نفسه في القرآن، فقراءته تفسيره، لا كيف ولا مثل “

وقال أبو القاسم التيمي - قوام السنة - في الحجة في بيان المحجة:

” فَمَا صَحَّ من أَحَادِيث الصِّفَات عَن رَسُول اللَّه ﷺ اجْتمع الْأَئِمَّة عَلَىٰ أَن تَفْسِيرهَا قرَاءَتهَا، قَالُوا: أمروها كَمَا جَاءَت “

فما معنىٰ: ”تفسيرها قراءتها“؟

والجواب علىٰ ذاك: قال ابن قتيبة في مقدمة كتابه غريب القرآن:

" نَفَتتِحُ كتابَنا هذا بذكْر أسمائه الحُسنىٰ، وصفاته العُلا، فنُخبِرُ بتأويلهما واشتقاقهما

ونُتْبِعُ ذلك ألفاظًا كثر تَرْدادُها في الكتاب لم نر بعض السُّور أولىٰ بها من بعض، ثم نبتدئ في تفسير غريب القرآن، دون تأويل مُشْكله: إذ كنا قد أفْرَدْنا للمشكل كتابًا جامعًا كافيًا، بحمد اللَّه. “

ثم قال:

” اشْتِقَاقُ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِه، وَإِظْهَار مَعَانِيهَا

١- الْرَّحْمنُ الرَّحِيمُ: صفتان مبنِيَّتان من "الرحمة، قال أبو عبيدةَ: وتقديرهما: نَدْمانُ، ونَدِيمٌ “

أقول: فقوله: ”وَإِظْهَار مَعَانِيهَا“، هو المراد بقوله: ”فنخبر بتأويلهما“

فصار معنىٰ التأويل إذًا: إظهار المعنىٰ وتبيانه

فهذا هو المراد بالتأويل والتفسير عند السلف، وهذا أمر معقول معروف ولكني استدل لتعنت القوم في مثل هذه السياقات

وعلىٰ ذاك الأساس نقول: قولهم: ”تفسيرها قراءتها“، إنما معناه: بيان معناها قراءتها

يعني أن بيان معناها وإظهاره متحققٍ بقراءتها، فهي معقولة معلومة

قال الذهبي في العلو: ” وكما قال سفيان وغيره قراءتها تفسيرها: يعني أنها بينة واضحة في اللغة لا يبتغىٰ بها مضائق التأويل والتحريف “

ولهذا فلا يقال: ما معنىٰ الوجه؟، لأن تفسير اللفظ متحقق بقراءته، واللفظ في اللغة معقول معلوم

فالوجه هو الوجه الذي يعرفه كل عاقل، وكذا يقال في بقية الصفات

قال الدارمي في نقضه: ”{إن الذين يبايعونك إنما يبايعون اللَّه يد اللَّه فوق أيديهم}

فثبت له اليد التي هي اليد عند ذكر المبايعة، إذ سمَّىٰ اليد مع اليد، واليد معه علىٰ العرش“

الشاهد قوله: ”اليد التي هي اليد”

وقال:

” ثم لم تأنف من هذا التأويل حتىٰ ادعيت على قوم من أهل السنة أنهم يفسرون ضحك اللَّه علىٰ ما يعقلون من أنفسهم، وهذا كذب تدعيه عليهم لأنا لم نسمع أحدًا منهم يشبه شيئًا من أفعال اللَّه تعالىٰ بشيء من أفعال المخلوقين، ولكنا نقول: هو نفس الضحك، يضحك كما يشاء، وكما يليق به، وتفسيرك هذا منبوذ في حشك”

الشاهد قوله: ”هو نفس الضحك”

وقال ابن قتيبة في الإختلاف في اللفظ:

” فإن قال لنا: ما اليدان ههنا، قلنا: هما اليدان اللتان تعرف الناس

كذلك قال ابن عباس في هذه الآية: (اليدان اليدان) “

الشاهد ما ذكره عن ابن عباس عليهما السلام: ”اليدان اليدان”

والعجيب أن ابن قتيبة لم يذكر في كتبه كتأويل مختلف الحديث والإختلاف في اللفظ تلك الأسئلة - التي هي من نحو قولهم: ما معنىٰ اليد، وما المراد بالوجه - إلا عن أهل الكلام والاعتزال

فهذا سلف مفوضة الأشعرية إذ يتعنتون كما يتعنت أسلافهم، فلعنهم اللَّه

قال ابن بطة في الإبانة الكبرىٰ:

” ٨٤ - سَأَلْتُ أَبَا عُمَرَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْوَاحِدِ صَاحِبَ اللُّغَةِ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ، صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ، وَقُرْبِ غِيَرِهِ

فَقَالَ: الْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ، وَرِوَايَتُهُ سُنَّةٌ، وَالِاعْتِرَاضُ بِالطَّعْنِ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ، وَتَفْسِيرُ الضَّحِكِ تَكَلُّفٌ وَإِلْحَادٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَقُرْبِ غِيَرِهِ، فَسُرْعَةُ رَحْمَتِهِ لَكُمْ وَتَغْيِيرُ مَا بِكُمْ مِنْ ضُرِّ ”

أفلا ترى أنه فسر اللفظ - وقرب غيره - بالصفة ولم يمتنع؟، فقوله: ”تكلف وإلحاد”، إنما يريد به أن معنى الضحك معلوم لا حاجة في مثله إلىٰ تفسير

فإنما يفسر الغريب أو الذي لا يُكتفىٰ دائًما بنفس لفظه في فهم معناه

ولم يرد أن معنى الضحك غير معروف، وأن السكوت عن تفسيره من باب التفويض، فقد تكلم هو والسلف في تفسير الصفات في غير موضع

فما أرادوا بالسكوت عن تفسير بعض الصفات كالضحك وغيره التفويض، وإنما هذه صفات معقولة لا حاجة في مثلها لتفسير

ولو قد عقل القوم ولا أراهم يعقلون لعلموا أن حجتهم تُعكس عليهم 

فبإمكان أي رجل أن يقول لهم: ما معنىٰ العلم؟، ولو التزموا نهجهم لفوضوا العلم إذ لما أمكنهم حد العلم بطريقة تكشف معناه بأكثر مما تكشف تلاوة اللفظ معناه

وقد قال أبو حامد الغزالي في المنخول من علم الأصول:

” الفصل الثاني في حقيقة العلم وحده

ولأصحابنا فيه ست عبارات “

ثم قال بعد مناقشتها والرد عليها:

” والمختار أن العلم لا حد له إذ العلم صريح في وصفه مفصح عن معناه ولا عبارة أبين منه

وعجزنا عن التحديد لا يدل علىٰ جهلنا بنفس العلم كما إذا سئلنا عن حد رائحة المسك عجزنا عنه لكون العبارة عنها صريحة ولا يدل ذلك علىٰ جهلنا “

فمثل هذا يقال في لفظ الوجه وفي كل ما يتعنت فيه القوم

وقال الدارمي في نقضه بعد أن ذكر بعض آيات الصفات:

”فَهَذَا النَّاطِقُ مِنْ كِتَابِ اللَّه يُسْتَغْنَىٰ فِيهِ بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ عَنِ التَّفْسِيرِ، وَتَعْرِفُهُ العَامَّةُ وَالخَاصَّةُ، غَيْرَ هَؤُلَاءِ المُلْحِدِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ الَّذِينَ غَالَطُوا فِيهَا الضُّعَفَاءَ”

واللَّه المستعان، وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخلاف في صفة الهرولة...

دلالة الحس علىٰ الخالق وصفاته وأفعاله...

هل تثبت صفة البشبشة؟