معاني الفرح في القرآن الكريم

بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه وعلىٰ آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:

قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن [٥٨٩]:

” الفرَحُ: المسرة، قال تعالىٰ: {حَتّى إِذا كُنتُم فِي الفُلكِ وَجَرَينَ بِهِم بِريحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحوا بها}، أي سُرُّوا

والفرَحُ: الرضا، لأنه عن المسرة يكون، قال اللَّهُ تعالىٰ: {كُلُّ حِزبٍ بِما لديهم فَرِحُون}، أي راضون

وقال: {فرحوا بما عندهم من العلم}، أي رضوا

والفرَحُ: البطر والأشر، لأن ذلك عن إفراط السرور، قال اللَّهُ تعالىٰ: {إن اللَّه لا يحب الفرحين}، وقال: {إنه لفرح فخور}

وقال: {ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض}

وقد تُبدَل الحاءُ في هذا المعنىٰ هاءً، فيقال: فره أي بطر، قال اللَّهُ تعالىٰ: {وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين}، أي: أشرين بطرين.

والهاء تبدل من الحاء لقرب مخرجيهما، تقول: مدحته ومدهته، بمعنى واحد ”

أقول: الفرح بمعناه المعروف كما في قوله تعالىٰ: {لا تَحسَبَنَّ الَّذينَ يَفرَحونَ بِما أَتَوا وَيُحِبّونَ أَن يُحمَدوا بِما لَم يَفعَلوا فَلا تَحسَبَنَّهُم بِمَفازَةٍ مِنَ العَذابِ وَلَهُم عَذابٌ أَليمٌ} 

وفي قوله تعالىٰ: {وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ}

قال الطبري في التفسير: ”حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَالَّذِينَ آتَـيْناهُمُ الكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيكَ}، أولئك أصحاب محمد ﷺ فرحوا بكتاب اللَّه وبرسوله وصدّقوا به قوله”

هذا إسناد صحيح

وأما مجيء الفرح بمعنىٰ الرضا فذلك أن من طرق العرب في الكلام أن تضع الكلمة موضع غيرها إذا كانت بسبب منها أو كلنت مشاكلة ومشابهة لها

فتضع العرب الفرح موضع الرضىٰ علىٰ سبيل الاستعارة إذ كان الرضا بسببٍ من الفرح، ويدل علىٰ هذا سياق الكلام

قال تعالىٰ: {فَتَقَطَّعوا أَمرَهُم بَينَهُم زُبُرًا كُلُّ حِزبٍ بِما لَدَيهِم فَرِحونَ}، أي راضون كما يظهر من السياق

قال يحيىٰ بن سلام رحمه اللَّه في تفسيره:

” قال: {كل حزب}، كل قوم منهم.

{بما لديهم}، بما عندهم مما اختلفوا فيه.

{فرحون}، يقول: راضون.

تفسير السدي. ”

وقال تعالىٰ: {فَلَمّا جاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ فَرِحوا بِما عِندَهُم مِنَ العِلمِ وَحاقَ بِهِم ما كانوا بِهِ يَستَهزِئونَ}

قال الطبري:

” حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسىٰ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللَّه {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ العِلْمِ}

قال: قولهم: نحن أعلم منهم، لن نعذّب، ولن نبعث ”

هذا إسناد صحيح، والآية تحتمل الفرح بمعنىٰ الرضىٰ وبمعناه المعروف

وأما مجيء الفرح بمعنىٰ البطر والأشر فلأن ذلك يكون بسببٍ من الفرح والعُجب بالنعمة

قال تعالىٰ: {إذ قال له قومه لا تفرح إن اللَّه لا يحب الفرحين}، أي الأشرين البطرين 

ويدل علىٰ هذا أنه تعالىٰ قال: {فبَغَىٰ عليهِم)، أي تجاوز الحد بالتكبر والتجبر عليهم بما أتاه الرب الكريم تعالىٰ من المال

قال الطبري في التفسير: "حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قال: إنما بغىٰ عليهم بكثرة ماله”

هذا إسناد صحيح 

فعُلِمَ بما ذكر تعالىٰ من بطره بنعمة المال وعدم شكره أن المراد بالفرح بعد ذلك إنما هو الأشر والبطر لا غير

قال الطبري في التفسير:

” حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوّام، عن مجاهد، في قوله {لا تَفْرَحْ إنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ}

قال: يعني به البغي ”

هذا إسناد صحيح

وقال ابن أبي حاتم في التفسير:

"١٧١٠٢ - حدثنا حجاج بن حمزة، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: {إن اللَّه لا يحب الفرحين} 

المتمدحين الأشرين البطرين الذين لا يشكرون اللَّه فيما أعطاهم ”

هذا إسناد صحيح

وقال تعالىٰ: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبالِ بُيُوتًا فارِهِينَ}، وقُرِئَت الآية هكذا: {فَرِهين}

فقد يكون المعنىٰ في القراءتين واحدًا بأن يكون فاره بمعنىٰ فارح، وفره بمعنىٰ فَرِح - صفة مشبهة -، وهذا قول ابن عباس عليهما السلام 

وقد تكون القراءتان علىٰ الاختلاف، فاللَّه العالم

قال يحيىٰ بن سلام في التفسير:

” {وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين}، شرهين في تفسير مجاهد، من قبل شره النفس.

وتفسير الحسن: آمنين.

وتفسير الكلبي: حذقين بصنعتها.

وقال قتادة: معجبين ”

أقول: ثبت عن مجاهد وقتادة ما ذكره يحيىٰ رحمه اللَّه

وقال الطبري: "ومعنىٰ قراءة من قرأ {فَرِهِينَ}، مَرِحين أشرين”

قال البخاري في صحيحه:

” قال ابن عباس: ... فرهين مرحين، {فارهين}، بمعناه ”

ووجه ذلك واللَّه العالم أن من طرق القول ومآخذه لدىٰ العرب وضع الكلمة موضع ما يشابهها أو يقاربها

كما قال تعالىٰ: {فأمه هاوية}، أي فمأواه ومرجعه هاوية، فوضع الأم موضع ذلك للمشابهة إذ كانت الأم هي مأوىٰ الطفل ومرجعه

فكذلك من طرق الحرف ومآخذه أن يوضع موضع ما يشابهه أو يقاربه

يقولون: لسق الشيء، بمعنىٰ: لصق الشيء، فيضعون السين موضع الصاد لتقاربهما 

قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن:

” وقلما تفعل العرب شيئّا في الكلام المتصل الكثير إلا فعلت مثله في الحرف الواحد المنقطع.

فكما يستعيرون الكلمة فيضعونها مكان الكلمة لتقارب ما بينهما، أو لأن إحداهما سبب للأخرى، فيقولون للمطر: سماء، لأنه من السماء ينزل

ويقولون للنبات: ندى، لأنه بالندى ينبت، ويقولون: ما به طِرْق، أي ما به قوة، وأصل الطرق: الشحم، فيستعيرونه مكان القوة، لأن القوة تكون عنه.

كذلك يستعيرون الحرف في الكلمة مكان الحرف فيقولون: مدهته بمعنىٰ: مدحته 

لأن الحاء والهاء يخرجان جميعًا من مخرج واحد.

ويقولون للقبر: جدث وجدف، ويقولون: ثوم وفوم ومغاثير ومغافير لقرب مخرج الفاء من التاء

ويقولون: هرقت الماء وأرقته، ولصق ولسق، وسحقت الزعفران وسهكته، وغمار الناس وخمارهم.

في أشباه لهذا كثيرة يبدلون فيها الحرف من الحرف، لتقارب ما بينهما. ”

وعلىٰ هذا فيكون قوله تعالىٰ: {فرهين}، بمعنىٰ فرحين، فيكون في الكلام استعارة إذ وُضِعَت الهاء موضع الحاء

والفرح في الآية هو بمعنىٰ البطر، واللَّه العالم، وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخلاف في صفة الهرولة...

دلالة الحس علىٰ الخالق وصفاته وأفعاله...

هل تثبت صفة البشبشة؟