الكلام عن جهالة العين والحال...
بسم اللَّه وبه أستعين وأقصد والصلاة والسلام علىٰ رسوله الأمين، وبعد:
اعلم رحمك اللَّه أن مبحث الجهالة معني بالبحث عن حال الراوي في جهالته ليُعرَف أمجهول هو في نفسه أو حاله فلا يكون فيه تعديل أو جرح من أهل النقد أم لا
فأما جهالة العين فهي جهالتنا بعين الراوي ونفسه أهو موجود أم لا؟
فمجهول العين هو الذي لا يُعرَف البتة فلا ندري أهو شخص حقيقي أم لا؟
وفي الأمر شبهة فقد يغلط الراوي في الاسم أو يهم فيبدل بدل الاسم اسمًا أخر، فنظن نحن لهذا أن المروي عنه مجهول وهو معروف
ولهذا فمجهول العين هو من لم يرو عنه إلا واحد ممن لا ينتقي في شيوخه، ولم يُعرَف بطلب أو بنسب أو كنية وما شابه هذا مما يدلنا علىٰ ثبوت شخصه ونفسه
فإن بُحِثَ عن حال راوٍ فثبت ضد ذلك المذكور أو بعضه لم يكن مجهولًا بالدليل المعتبر
قال الخطيب البغدادي في الكفاية: ”بابُ ذِكْرِ الْمَجْهُولِ وَمَا بِهِ تَرْتَفِعُ عَنْهُ الْجَهَالَةُ
الْمَجْهُولُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: هُوَ كُلُّ مَنْ لَمْ يُشْتَهَرُ بِطَلَبِ الْعِلْمِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا عَرَفَهُ الْعُلَمَاءُ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُعْرَفْ حَدِيثُهُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ رَاو وَاحِدٍ
وَأَقَلُّ مَا تَرْتَفِعُ بِهِ الْجَهَالَةُ أَنْ يَرْوِيَ عَنِ الرَّجُلِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا مِنَ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ كَذَلِكَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْقَارِئُ، نا أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَىٰ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَىٰ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: إِذَا رَوَى عَنِ الْمُحَدِّثِ رَجُلَانِ ارْتَفَعَ عَنْهُ اسْمُ الْجَهَالَةِ ”
القول بدرء الجهالة برواية اثنين منسوب للذهلي رحمه اللَّه، وهو قول وجيه
فإنا برواية اثنين نتيقن من وجود الرجل، وندفع شبهة جهالته التي ذكرت مسبقًا حقًّا وصدقًا
ولكن كلام الأئمة مجتمع غير مفترق، ومؤتلف غير مختلف، فبِكلٍّ نقول ونأخذ إن شاء اللَّه تعالىٰ
فالكلام المنسوب للذهلي رحمه اللَّه حق، ولكنه يُخصص بكلام الأئمة فيخرج بذلك من روىٰ عنه ولو رجل واحد ممن ينتقي
فإن تعديلَ عددٍ من أهل النقد كائن بالرواية، وتجريحهم كائن بتركها
وهؤلاء ينتقون في شيوخهم وينتقدون، ولا يقنع القانع منهم إلا بكل ثقة مأمون
ففي روايتهم كفاية، ودرءٌ للجهالة إذ المتحري أساسًا وأصلًا غير قانع بالراوية عن امرٍؤ حتىٰ يراه ثقةً وعدلًا
فهذا يجعلنا موقنين بثبوت شخص المروي عنه لأن جهالة الحال زائلة برواية المنتقي فجهالة العين أولىٰ بالزوال وأحرىٰ
قال ابن رجب في شرح علل الترمذي:
” والمنصوص عن أحمد يدل علىٰ أنه من عرف منه أنه لا يروي إلا عن ثقة، فروايته عن إنسان تعديل له
ومن لم يعرف منه ذلك فليس بتعديل ”
قال أبو داود في مسائله:
” قلت لأحمد: إذا روىٰ يحيىٰ أو عبد الرحمن بن مهدي عن رجل مجهول، يحتج بحديثه؟، قال: يحتج بحديثه ”
وقال ابن رجب في شرح علل الترمذي:
” وقال يعقوب بن شيبة: قلت ليحيىٰ بن معين: متىٰ يكون الرجل معروفًا؟، إذا روىٰ عنه كم؟
قال: إذا روىٰ عن الرجل مثل ابن سيرين والشعبي، وهؤلاء أهل العلم، فهو غير مجهول
قلت: فإذا روىٰ عن الرجل مثل سماك بن حرب، وأبي إسحاق، قال: هؤلاء يروون عن مجهولين، انتهىٰ
وهذا تفصيل حسن ”
ويخرج من كلام الإمام الذهلي رحمه اللَّه ما إذا عرفنا نسب الراوي أو كنيته أو عمله وما شابه ذلك، أو ما إذا عرفناه بشهرة الطلب
فإننا بهذا نجزم بحقيقة شخص الراوي، وندرء شبهة جهالته بسببٍ من الغلط أو الوهم بالاسم وغير ذلك
ولهذا قال الخطيب:
” الْمَجْهُولُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: هُوَ كُلُّ مَنْ لَمْ يُشْتَهَرُ بِطَلَبِ الْعِلْمِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا عَرَفَهُ الْعُلَمَاءُ بِهِ ”
فاشترط مع الشرط الآخر أن لا يُعرَف بشهرة الطلب والعلم
فمتىٰ عُرِفَ امرؤ بشهرة الطلب انتفت جهالة العين في حقه وإن لم يرو عنه إلا واحد
ومثل معرفة الراوي بالطلب معرفة نسب الراوي وكنيته وعمله وغير ذلك
ويبقىٰ أن يقال: إن مجهول العين الذي لم تنتف جهالته علىٰ درجة شديدة من الضعف
وأما جهالة الحال فهي أن نجهل الراوي من جهة الجرح والتعديل من قِبل أهل النقد لا من جهة العين
وهذا المجهول رواية الثقات غير المنتقين عنه لا تعني تعديله
فإن كثيرًا من الثقات رووا عن الضعفاء، وإن كان جمهور أهل الحديث يتركون الرواية عمن يغلب عليهم الوهم والغفلة
قال الإمام الترمذي في علله:
” وأخبرني محمد بن إسماعيل: حدثني يحيى بن معين، ثنا عفان، عن أبي عوانة، قال: لما مات الحسن البصري رحمه اللَّه اشتهيت كلامه، فتتبعته عن أصحاب الحسن
فأتيت به أبان بن أبي عياش، فقرأه علي كله عن الحسن، فما استحل أن أروي عنه شيئًا
قال أبو عيسىٰ:
وقد روىٰ عن أبان بن أبي عياش غير واحد من الأئمة، وإن كان فيه من الضعف والغفلة ما وصفه به أبو عوانة وغيره
فلا تغتروا برواية الثقات عن الناس لأنه يُروَىٰ عن ابن سيرين أنه قال: إن الرجل ليحدثني فما أتهمه، ولكن أتهم من فوقه. ”
فإن قيل: فلم لا ينتقي كل الثقات النقاد، ولم يروون عن الضعفاء مع علمهم بذاك
قيل: قد أجاب علىٰ هذا أبو حاتم الرازي رحمه اللَّه
قال ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل:
”سمعت أبي يقول، إذا رأيت شعبة يحدث عن رجل فأعلم أنه ثقة إلا نفرًا بأعيانهم
قيل لأبي: ألم يكن للثوري بصر بالحديث كبصر شعبة؟
قال: كان الثوري قد غلب عليه شهوة الحديث وحفظه، وكان شعبة أبصر بالحديث وبالرجال”
ورواية الثقات وإن كانت لا تعني التعديل فلها وجه في تحسين حال الراوي
قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل:
” باب في رواية الثقة عن غير المطعون عليه أنها تقويه، وعن المطعون عليه أنها لا تقويه
حدثنا عبد الرحمن قال: سألت أبي عن رواية الثقات عن رجل غير ثقة مما يقويه؟
قال: إذا كان معروفًا بالضعف لم تقوه روايته عنه، وإذا كان مجهولًا نفعه رواية الثقة عنه.
حدثنا عبد الرحمن قال: سألت أبا زرعة عن رواية الثقات عن رجل مما يقوي حديثه؟، قال: أي لعمري
قلت: الكلبي روىٰ عنه الثوري، قال إنما ذلك إذا لم يتكلم فيه العلماء، وكان الكلبي يتكلم فيه
،قال أبو زرعة حدثنا أبو نعيم، نا سفيان، نا محمد بن السائب الكلبي وتبسم الثوري
قال أبو محمد: قلت لأبي: ما معنىٰ رواية الثوري عن الكلبي وهو غير ثقة عنده؟
فقال: كان الثوري يذكر الرواية عن الكلبي علىٰ الإنكار والتعجب، فتعلقوا عنه روايته عنه ولم تكن روايته عن الكلبي قبوله ”
وإنما ينفع المجهول رواية الثقات عنه لأن ذاك يدل علىٰ شهرته بالطلب، فكلما كثر الرواة عنه كلما حَسُن حاله عندنا
والمجهول في حاله إن روىٰ عنه اثنين أو أكثر، وإذا كان هو من طبقة التابعين، ولم يوجد في حديثه نكارة ولا مخالفة لأصول الشريعة العامة
ووثقه مع ذلك بعض المتساهلين كالعجلي وابن حبان، فهنا يحسُن حاله أكثر وأكثر
وإذا روىٰ موقوفًا بخلاف الجادة يحتمل بمثله الضعفاء، قُبِلَ منه ذلك إن شاء اللَّه
وفي الباب أحوال وتفاصيل أكثر مما ذكرت، واللَّه العالم
وقد مر معنا أن رواية المنتقي تزيل الجهالة جهالة العين والحال، فمتىٰ روىٰ منتقٍ في الشيوخ عن مجهول الحال زالت جهالته
ولا يُدفَع هذا إن روىٰ المنتقي عن بعض الضعفاء في حينٍ ما
فإن هذا شذوذ لا يلغي الأصل، والأصل أن رواية المنتقي تعديل وتثبيت للراوي
واللَّه العالم، وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد
تعليقات
إرسال تعليق