بيان قائل قوله: {وما أبرئ نفسي...}

بسم اللَّه وبه أستعين والصلاة والسلام علىٰ رسوله الأمين، وبعد:

قال عامة مفسري السلف بأن يوسف عليه السلام هو قائل: قوله: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن اللَّه لا يهدي كيد الخائنين وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم}

ولم يذكر كلٌّ من ابن أبي حاتم وعبد الرازق والطبري وسفيان الثوري شيئًا بخلاف ذلك 

فإن قيل: ما وجه هذا التفسير؟

قيل: قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن:

”وللعرب المجازات في الكلام، ومعناها: طرق القول ومآخذه. ففيها الاستعارة

والتمثيل، والقلب، والتقديم، والتأخير، والحذف، والتكرار، والإخفاء، والإظهار، والتعريض، والإفصاح، والكناية، والإيضاح

ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الاثنين

والقصد بلفظ الخصوص لمعنىٰ العموم، وبلفظ العموم لمعنىٰ الخصوص مع أشياء كثيرة ستراها في أبواب المجاز إن شاء اللَّه تعالىٰ

وبكل هذه المذاهب نزل القرآن ”

ثم قال في باب مخالفة ظاهر اللفظ معناه:

” ومنه أن يتصل الكلام بما قبله حتىٰ يكون كأنه قول واحد وهو قولان

نحو قوله: {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة}، هذا قول المرأة

ثم قال: {وكذلك يفعلون}، وليس هذا من قولها

وقوله: {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا}، انقطع الكلام، ثم قالت الملائكة: {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون}

وقوله حكايةً عن ملأ فرعون: {يريد أن يخرجكم من أرضكم}، هذا قول الملأ، ثم قال فرعون: {فماذا تأمرون} ”

أقول: هذا الذي ذكره ابن قتيبة رحمه اللَّه من طرق العرب في الكلام، ومن تفننها في المقام 

فإن العرب قد تصل الكلام بما بعده حتىٰ يكون متصلًا وقولًا واحدًا، وما هو إلا كلام منفصل غير متصل، وقولان لا قول 

فتفصل العرب الكلام عما اتصل به

وهذه طريقة في الكلام ومآخذ، وإنما يدل عليها ما يُقرَن به الكلام أو السياق

ومثل ذلك في قوله تعالىٰ:

{قالَ المَلَأُ مِن قَومِ فِرعَونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَليمٌ (١٠٩) يُريدُ أَن يُخرِجَكُم مِن أَرضِكُم فَماذا تَأمُرونَ (١١٠) قالوا أَرجِه وَأَخاهُ وَأَرسِل فِي المَدائِنِ حاشِرينَ}

وهذا كلام يخالف ظاهره مخرجه، وإنما معناه: فقال: فماذا تأمرون؟

يدلك علىٰ ذلك ما قُرِنَ به الكلام بعدها: {قالوا أرجه وأخاه}، فعُلِمَ أن السائل غير الملأ لأنهم المجيبون 

وعُلِمَ أن في الكلام طريقةً ومآخذًا أي حذفًا للاختصار، فالمعنىٰ: وقال فرعون: فماذا تأمرون

وذهب من الكلام هذا لدلالة ما بقي من الكلام عليه

ومثله في قوله تعالىٰ: {وأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم}، أي يقول أو يُقال لهم: أكفرتم؟، فحذف الفعل لدلالة الكلام عليه 

قال أبو جعفر الطبري في التفسير:

” وقيل: {فماذا تأمرون} والخبر بذلك عن فرعون، ولم يذكر فرعون، وقلما يجيء مثل ذلك في الكلام ”

ومثل ذلك أيضًا في قوله سبحانه وتعالىٰ:

{قالوا يا وَيلَنا مَن بَعَثَنا مِن مَرقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحمنُ وَصَدَقَ المُرسَلون (٥٢) إِن كانَت إِلّا صَيحَةً واحِدَةً فَإِذا هُم جَميعٌ لَدَينا مُحضَرونَ} 

وهذا كلام مخرجه ظاهر بسياقه، وهو أن الملائكة عليهم السلام قالوا: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون

هذا قول ابن قتيبة، وقد ثبت عن مجاهد أنه قال: (مما سرّ المؤمنون يقولون هذا حين البعث)

وثبت عن قتادة قوله: (قال أهل الهدى: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون.)

وقال يحيىٰ بن سلام في التفسير: ” {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}، سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: تَكَلَّمَ بِأَوَّلِ هَذِهِ الآيَةِ أَهْلُ الضَّلالَةِ وَبِآخِرِهَا أَهْلُ الإِيمَانِ

عُثْمَانُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: قَالَ الْكُفَّارُ: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}، قَالَتِ الْمَلائِكَةُ: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}

وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُمُ الْمَلائِكَةُ الَّذِينَ كَانُوا يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ ”

ويدلك علىٰ قول مجاهد ومن وافقه أن سياق القول دال علىٰ جهلهم بمن بعثهم، فعُلِمَ بهذا أن المجيبين أهل الإيمان لا أهل الكفر

وقال الطبري في التفسير:

” حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: {يا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنا}، ثم قال بعضهم لبعض: {هَذَا ما وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ المُرْسَلُونَ}

كانوا أخبرونا أنا نبعث بعد الموت، ونُحاسب ونُجازَىٰ ”

وهذا إسناد قوي لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم رحمهما اللَّه، وقوله في الآية بخلاف الأظهر وإن كان محتملًا ظاهر الكلام

قال الطبري بعد أن عرض الأقوال كلها: 

” والقول الأوَّل أشبه بظاهر التنزيل، وهو أن يكون من كلام المؤمنين، لأن الكفار في قيلهم: {مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا}، دليل علىٰ أنهم كانوا بمن بعثهم من مَرْقَدهم جُهَّالًا

ولذلك من جهلهم استثبتوا، ومحالٌ أن يكونوا استثبتوا ذلك إلا من غيرهم، ممن خالفت صفته صفتهم في ذلك. ”

وعلىٰ هذا فوجه قول السلف في قوله تعالىٰ: {وما أبرئ نفسي}، هو الباب المذكور واللَّه العالم

قال تعالىٰ: {قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسي وإنه لمن الصادقين (٥١) ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن اللَّه لا يهدي كيد الخائنين (٥٢) وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربي إن ربي غفور رحيم}

فالكلام مخرجه ظاهر بسياقه، وإنما معناه: فقال يوسف: ذلك ليعلم ... إلىٰ أخر الكلام

يدلك علىٰ ذلك أن قوله: وما أبرئ نفسي ... إلىٰ أخره، لا يصلح أن يكون كلامًا لامرأة العزيز إذ كانت قد أدانت نفسها

فتلك الكلمة إنما هي لقائل لم تثبت عليه الإدانة فقالها تواضعًا، وهذا معقول الكلام ومدلوله

فعُلِمَ بهذا الذي ذكرت أن الكلام اتصل ومخرجه الانفصال بدلالة سياقه، وعُلِمَ أن فيه حذفًا ذهب لدلالة ما بقي من الكلام عليه

كما حصل ذلك في قوله سبحانه: {فماذا تأمرون}

قال الطبري في التفسير:

” وقيل: {فماذا تأمرون} والخبر بذلك عن فرعون، ولم يذكر فرعون، وقلَّما يجيء مثل ذلك في الكلام، وذلك نظير قوله:

{قالَتِ امْرأةُ العَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أنا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإنَّهُ لَمنَ الصَّادِقينَ ذلكَ لِيَعْلَمُ أنْي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ}

فقيل: {ذلكَ لَيْعَلَم أنّي لم أَخُنْهُ بالغَيْبِ}، من قول يوسف ”

وقال ابن وهب في التفسير المطبوع له:

” ٣٢٥ - أخبرنا ابن وهب قال: وحدثني الليث أن البرهان الذي رأى يوسف [صورة أبيه يعقوب] عاضا على يده، قال: هو يحل الهميان، فلما رآه قام وقال: إن يوسف [ ... ... .] ليعلم إني لم أخنه بالغيب؛ قال له جبريل: اذكر ما هممت [ ... ... يوسف] وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، إن ربي غفورٌ رحيم ”

وقال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن:

” ومنه أن يتصل الكلام بما قبله حتىٰ يكون كأنه قول واحد وهو قولان

وقوله: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}، هذا قول المرأة، ثم قال يوسف: {ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيب}، أي ليعلم الملك أني لم أخن العزيز بالغيب ”

وهذا القول الذي ذكره الليث بن سعد وابن قتيبة هو قول أهل التأويل ولا نجد في تفسير الطبري وعبد الرزاق وابن أبي حاتم وسفيان الثوري شيئًا بخلافه

وأهل التأويل أعلم وأدرىٰ فكفانا هذا إن شاء اللَّه تعالىٰ

فإن قيل: قد قال ابن كثير في تفسيره:

” وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام، وقد حكاه الماوردي في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام العلامة أبو العباس ابن تَيميَّة رحمه اللَّه، فأفرده بتصنيف على حدة

وقد قيل: إن ذلك من كلام يوسف عليه السلام من قوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ}، في زوجته {بِالْغَيْبِ}، أي: إنما رَدَدْتُ الرسول ليعلم الملك براءتي وليعلم العزيز: {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ}، في زوجته: {بالْغَيْبِ}، {وأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}

وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم سواه. ”

قيل: قول ابن كثير رحمه اللَّه: (وهذا القول هو الأشهر بسياق القصة ومعاني الكلام)، ليس بمحل من الصواب

فإن مخرج انفصال الكلام عما سبق أظهر في السياق وأغلب في المعنىٰ من مخرج اتصال الكلام بما سبق

وذاك أنها كلمة تواضع لقائل لم تثبت عليه الإدانة فقال: (وما وأبرئ نفسي)، إلىٰ أخر الكلام

وهذا لأن يكون من قول المرأة علىٰ بعد وقلة بخلاف ما إن كان من قول يوسف ﷺ 

وأهل التأويل أعلم وأدرىٰ، فلا معدل لنا عن قولهم بحمد اللَّه تعالىٰ 

واللَّه العالم، وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الخلاف في صفة الهرولة...

دلالة الحس علىٰ الخالق وصفاته وأفعاله...

هل تثبت صفة البشبشة؟