هل للمبتدع توبة؟
بسم اللَّه التواب الرحيم وبه أستعين والصلاة والسلام علىٰ رسوله الرؤوف الرحيم، وبعد:
قال جل وجهه: {وَعادًا وَثَمودَ وَقَد تَبَيَّنَ لَكُم مِن مَساكِنِهِم وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطانُ أَعمالَهُم فَصَدَّهُم عَنِ السَّبيلِ وَكانوا مُستَبصِرينَ}
والمُستَبصِر: هو الذِي اعتَقد في الشَيءِ البصيرة، ومثل ذلك قولك: المُستَحسِنُ ضلالَه، والمُستَكرِمُ ضيفَه أي المعتقد بضلاله الحسن، والمعتقد بضيفه الكرم
قال ابنُ جريرٍ الطبري في تفسِيره:
” {وكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}، يقول: وكانوا مستبصرين في ضلالتهم، مُعْجَبين بها، يحسِبون أنهم علىٰ هُدًى وصواب، وهم علىٰ الضلال
حدثنا بِشرٌ، قال: ثنا يزِيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ: {وكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}، في ضلالتهم مُعْجَبين بها “
هذا إسناد صحيح، ورواية سعيد بن أبي عروبة من كتاب فلا تُعل ولا تُدفَع
وعلىٰ هذا فيقال: من استحسن ضلالته واستبصرها لم يكد يعد منها إلا بتوفيقٍ من الرحمن تعالىٰ ذكره
فاستبصارهم أولئك الكفار من أسباب بقائهم علىٰ الردىٰ، وإيثارهم الضلال علىٰ الهدىٰ
ومن هذا الباب: استبصارُ المبتدعة بدعَهم، فإنَّ المبتدعَ إنَّما يبتدِعُ ما يراه صَوابًا من الأمرِ وَسَدادًا من القَولِ
فكان المُبتدِع غير تائبٍ ما دام مستحسنًا ومستبصرًا بدعته وضلالته
ولهذا قال من قال من السلف: ”البدعةُ لا يُتاب مِنها”، وما شابه ذلك
ووجه هذا القول معقول في القلوب، وهو ما ذكرت من كون المبتدع مُستحسِنًا ومُستبصِرًا
ولكن هذا لا يدفع توبته بزوال استحسانه، وذهاب ما زينه الشيطان له
ولهذا فقولهم بأن المبتدع لا توبة له إنما هو الأصل والغالب لا أن ذلك واقع بكل حال، فهذا معقول كلامهم
وكذلك كان قولهم محمولًا علىٰ الغالب لأنه مُشاهَد في العيان ومُلاحَظ في كل عصر وزمن توبة بعض أهل البدع، وقبول ذلك منهم
فقد تاب جمع من الخوارج الذين ناظرهم ترجمان القرآن عبد اللَّه بن عباس عليه السلام مثلًا
وإليك مختصر الأمر من كلام أبي العباس ابن تيمية رحمه اللَّه في التحفة العراقية إذ قال:
" ومعنىٰ قولهم: (إنَّ البدعة لا يتاب منها)
أنَّ المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه اللَّه ولا رسوله، قد زُيِّن له سوء عمله فرآه حسنًا فهو لا يتوب ما دام يراه حسنًا
لأنَّ أول التوبة العلم بأنَّ فعله سيئ ليتوب منه، أو بأنه ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله
فما دام يرى فعله حسنًا وهو سيئ في نفس الأمر، فإنًه لا يتوب
ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأنَّ يهديه اللَّه ويرشده حتىٰ يتبين له الحق كما هدىٰ سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال ”
هذا والدليل الأوكد علىٰ أن قولهم محمول علىٰ الغالب هو أن في كلام بعضهم دلالة علىٰ إمكان توبة أهل البدع
فالباب ليتضح يُجمَع الكلام فيه كله، ولا يُجتَزء بعضه دون بعض
قالَ ابن بطة العكبري في الإبانة الكُبرىٰ:
” ٤٠٤ - حدثنا أبو حفص، قال: نا أبو نصر بن أبي عصمة، قال: نا الفضل بن زياد، قال: قلت لأبي عبد اللَّه: إنَّ الشراك بلغني عنه أنَّه قد تاب ورجع
قال: كذب، لا يتوب هؤلاء، كما قال أيوب: إذا مرق أحدهم لم يعد فيه ”
الشراك هو يعقوب الشراك، لفظيٌّ خبيث قال بأن لفظه بالقرآن مَخلوقٌ
وقال أيضًا: ”القرآن كلام اللَّه، فإذا تلوته فتلاوته مخلوقة”، فقال الإمام أحمد: ”قاتله اللَّه، هذا كلام جهم بعينه!”
وأمر بهجرانه وبجفاء من جالسه ودافع عنه إلا أن يكون رجلًا جاهلًا بأمره
ومع ذلك فقد قال الخلَّال في السنة:
” ٢٠٥٩ - وأخبرنا أبو بكر المروذي قال: قلت لأبي عبد اللَّه ... إلىٰ أن قال: وأمرني أبو عبد اللَّه، أن أحذر عنه، وأهجر من جلس إليه
فأخبرت أبا عبد اللَّه بقدومه إلىٰ بغداد، فأمرني أن أحذر عنه، ومن كل من جلس إليه حتىٰ يظهر توبة صحيحة
قلت: فإن الشراك يقول: لم أقل، فكيف أتوب؟!
فقال أبو عبد اللَّه: كذب هؤلاء يحكون عنه ويشهدون - يعني الذين شهدوا عليه بطرسوس - ”
قوله: "حتىٰ يظهر توبة صحيحة“، يدل علىٰ أن للمبتدع توبة صحيحة
واشتراطه التوبة الصحيحة لأن من التوبة توبة غير صحيحة
فتوبة المجاهر بالمعصية مثلًا لا تصح سرًّا إذ لا بد من أن يعلن بإنكار المنكر الذي فعله كما أعلن بفعله من قبل ويبين فساده
وكذا الداعي إلىٰ البدعة إن كانت توبته سرًّا فلا يقبل منه إذ لا بد من أن يعلن بالتنفير من البدعة مقبحًا لها كما أعلن بالدعوة إليها مزينًا إياها
وكما كتم ما يقابل تلك البدعة من الحق يبين ما كتم
فالتوبة من الذنب تكون بفعل ضده، فالتوبة من ذنب النفاق والرياء مثلًا مشروطة بالإخلاص الذي هو ضد النفاق والرياء
قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن: ” وقوله: إلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ
فدلّ على أن المنافقين شرّ من كفر به، وأولاهم بمقته، وأبعدهم من الإنابة إليه لأنه شرط عليهم في التوبة: الإصلاح والاعتصام، ولم يشرط ذلك على غيرهم
ثم شرط الإخلاص، لأن النّفاق ذنب القلب، والإخلاص توبة القلب ”
ومثلًا توبة كاتم الحق مشروطة بالبيان، ودعاة المبتدعة كاتمون وزيادة فهم من هذا الباب
قال تعالىٰ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
قال ابن القيم في مدارج السالكين:
” فتَوْبَةُ هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ بِمَحْضِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَلَا يُكْتَفَىٰ مِنْهُمْ بِذَلِكَ أَيْضًا حَتَّىٰ يُبَيِّنُوا فَسَادَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبِدْعَةِ إذِ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ هِيَ بِفِعْلِ ضِدِّهِ
وَلِهَذَا شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَىٰ فِي تَوْبَةِ الْكَاتِمِينَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ الْبَيَانَ، لِأَنَّ ذَنْبَهُمْ لَمَّا كَانَ بِالْكِتْمَانِ كَانَتْ تَوْبَتُهُمْ مِنْهُ بِالْبَيَانِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
وذَنْبُ الْمُبْتَدِعِ فَوْقَ ذَنْبِ الْكَاتِمِ، لِأَنَّ ذَاكَ كَتَمَ الْحَقَّ، وَهَذَا كَتَمَهُ وَدَعَا إِلىٰ خِلَافِهِ، فَكُلُّ مُبْتَدِعٍ كَاتِمٌ وَلَا يَنْعَكِسُ ”
وروىٰ أبو نعيم في حلية الأولياء بسند صحيح عن التابعي ميمون بن مهران قال:
( مَنْ أَسَـاءَ سِـرًّا فَلْيَتُـبْ سِـرًّا ، وَمَنْ أَسَـاءَ عَلَانِيَـةً فَلْيَتُـبْ عَلَانِيَـةً ، فَـإِنَّ اللَّهَ يَغْفِـرُ وَلَا يُعَيِّـرُ ، وَالنَّـاسُ يُعَيِّـرُونَكُ وَلَا يَغْفِـرُونَ )
فهذا هو الأمر وكما قال بعض السلف: حتىٰ يظهر من توبتك مثل ما ظهر منك في بدعتك
قال ابن بطة في الإبانة الصغرىٰ: ( وقال الحسن بن شقيق: كنا عند ابن المبارك إذ جاءه رجل، فقال له: أنت ذاك الجهمي؟، قال: نعم
قال: إذا خرجت من عندي فلا تعد إلي، قال: فأنا تائب، قال: لا، حتىٰ يظهر من توبتك مثل الذي يظهر من بدعتك )
ومن التوبة المردودة أن ينكر المرء ذنبه وبدعته ولا يعترف، فمن شروط التوبة الإقرار
وذاك الصنف لا توبة له لأن التوبة علىٰ من اعترف كما يقول الإمام أحمد رحمه اللَّه
قال ابن مفلح في الأداب الشرعية:
” فَصْلٌ فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْبِدْعَةِ الْمُفَسِّقَةِ وَالْمُكَفِّرَةِ وَمَا اُشْتُرِطَ فِيهَا
وَمَنْ تَابَ مِنْ بِدْعَةٍ مُفَسِّقَةٍ أَوْ مُكَفِّرَةٍ صَحَّ إنْ اعْتَرَفَ بِهَا وَإِلَّا فَلَا
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ فِي الرَّجُلِ يُشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْبِدْعَةِ فَيَجْحَدُ: لَيْسَتْ لَهُ تَوْبَةٌ، إنَّمَا التَّوْبَةُ لِمَنْ اعْتَرَفَ، فَأَمَّا مَنْ جَحَدَ فَلَا تَوْبَةَ لَهُ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: وَإِذَا تَابَ الْمُبْتَدِعُ يُؤَجَّلُ سَنَةً حَتَّىٰ تَصِحَّ تَوْبَتُهُ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ أَنَّ الْقَوْمَ نَازَلُوهُ فِي صَبِيغٍ بَعْدَ سَنَةٍ، فَقَالَ: جَالِسُوهُ وَكُونُوا مِنْهُ عَلَىٰ حَذَرٍ ”
ولذاك الكلام لم يقبل الإمام أحمد توبة يعقوب الشراك لأنه يكذب ولا يعترف مع ثبوت المقالة عنه بشهادة من شهد عليه
ولهذا أيضّا لم يقبل أحمد توبة داود الأصبهاني لأنه أنكر وما اعترف مع أن المقالة ثابتة عنه لأن الذهلي رحمه اللَّه كتب إلىٰ أحمد يحذره منه بسبب تلك المقالة وهو أصدق من داود
قال الخطيب في تاريخ بغداد:
” قلت: وكان داود قد حُكِيَ لأحمد بن حنبل عنه قولًا في القرآن بدعه فيه، وامتنع من الاجتماع معه بسببه
فأنبأنا أبو بكر البرقانيّ، حدّثنا يعقوب بن موسى الأردبيلي، حدّثنا أحمد بن طاهر ابن النّجم، حدّثنا سعيد بن عمرو البرذعيّ، قال: كنا عند أبي زرعة ... إلىٰ أن قال: ثم قال لي: ترىٰ داود هذا؟
لو اقتصر علىٰ ما يقتصر عليه أهل العلم لظننت أنه يكمد أهل البدع بما عنده من البيان والآلة، ولكنه تعدىٰ
لقد قدم علينا من نيسابور فكتب إلي محمّد بن رافع، ومحمّد بن يحيىٰ، وعمرو بن زرارة، وحسين بن منصور، ومشيخة نيسابور بما أحدث هناك، فكتمت ذلك لما خفت من عواقبه، ولم أبدله شيئًا من ذلك
فقدم بغداد وكان بينه وبين صالح بن أحمد حسن، فكلم صالحا أن يتلطف له في الاستئذان علىٰ أبيه، فأتىٰ صالح أباه فقال له: رجل سألني أن يأتيك؟، قال: ما اسمه؟ قال: داود
قال: من أين؟، قال: من أهل أصبهان، قال: أي شيء صناعته؟، قال: وكان صالح يراوغ عن تعريفه إياه، فما زال أبو عبد اللَّه يفحص عنه حتىٰ فطن
فقال: هذا قد كتب إليّ محمّد بن يحيىٰ النّيسابوري في أمره إنه زعم أن القرآن محدث فلا يقربني. قال: يا أبت ينتفي من هذا وينكره، فقال أبو عبد اللَّه: أحمد بن محمّد بن يحيىٰ أصدق منه، لا تأذن له في المصير إلي ”
واللَّه العالم، وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد
تعليقات
إرسال تعليق