أصول ودعائم تفسيرية...
بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه، وبعد:
فهذه قواعد وأصول تفسيرية أرجو أن ينفع اللَّه بها طلاب العلم
وسأذكرها علىٰ الترتيب سائلًا اللَّه العون بقدرته والتوفيق بلطفه ولا حول ولا قوة إلا به
فأول ما أبدأ به:
١ - مراعاة دلائل الآيات وسياقها
فالمعنىٰ إنما ينصرف إلىٰ المعنىٰ الذي يدل عليه القول بدلائله ويحتمله في سياقه
قال عثمان بن سعيد الدارمي في النقض علىٰ المريسي: ( وَإِنَّمَا يَصْرِفُ كُلَّ مَعْنَى إِلَىٰ معْنَىٰ الَّذِي يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُهُ فِي سِيَاقِ القَوْلِ )
فمثلًا قوله تعالىٰ: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖمَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚإِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )
إنما يراد من قوله: (وهو معهم أين ما كانوا)، أي بعلمه وخبرته
وهذا بدليل سياق الكلام وما فيه من الدلائل المُفسِّرة
فالكلام ظاهر بسياقه ودلائله غير مشتبه عند أهل العلم والبصر
ففي ابتداء سياقة الكلام وانتهاءها وفي ذكره تعالىٰ للنجوى وهي حديث السر ما يدل علىٰ العلم
فإنما معنىٰ الكلام: ما يكون من حديث سر من ثلاثة إلا هو رابعهم بعلمه بنجواهم، وما يكون من حديث سر من خمسة إلا هو سادسهم بعلمه بنجواهم وهمسهم
وما يكون من حديث سر من أدنىٰ من خمسة أو أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا بعلمه فلا يخفىٰ عليه همس ولا سر
قال البخاري في خلق أفعال العباد: ( وَقَالَ ابْنُ مَعْدَانَ سَأَلْتُ الثَّوْرِيَّ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ}، قَالَ: عِلْمُهُ )
ومثلًا قوله تعالىٰ: ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚكُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ)
إنما يراد من قوله: (لا نفرق بين أحد من رسله)، أي في الإيمان فبكل نؤمن ولا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، وهذا المعنىٰ مفهوم من سياق الكلام
وقد بين تعالىٰ ما المراد بالتفريق بين الرسل في موضع أخر فقال تعالىٰ: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ١٥٠ أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا )
فبين تعالىٰ أن من فرق بين الرسل فآمن ببعض وكفر ببعض فهو كافر حقًّا، وهذا هو التفريق المذموم المنفي في الآية الأخرىٰ
فأما التفريق المُثبَت بين الرسل فهو في قوله تعالىٰ: ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ )
هذا وثاني أصل يُذكَر هو:
٢ - أن حق الكلام أن يُخرَّج علىٰ الأعم والأغلب من مخارجه الأعرف دون الأخص والأقل من مخارجه الأنكر إلا ببينة من كتاب أو أثر أو إجماع
قال تعالىٰ: ( وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٩٢ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ١٩٣ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ١٩٤ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ )
قال عثمان بن سعيد الدارمي في النقض علىٰ المريسي: ( وَالقُرْآنُ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ، تُصْرَفُ مَعَانِيهِ إِلَىٰ أَشْهَرِ مَا تَعْرِفُهُ العَرَبُ فِي لُغَاتِهَا، وَأَعَمِّهَا عِنْدَهُمْ )
وقال رحمه اللَّه: ( {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}، فَأَثْبَتُهُ عِنْدَ العُلَمَاءِ: أَعَمُّهُ وأَشَدُّه اسْتِفَاضَةً عِنْدَ العَرَبِ )
قال محمد بن جرير الطبري: ( وإنما يوجه الكلام إلىٰ الأغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه دون الخفي حتىٰ تأتي بخلاف ذلك مما يوجب صرفه إلىٰ الخفي من معانيه حجة يجب التسليم لها من كتاب أو خبر عن الرسول ﷺ أو إجماع من أهل التأويل )
وهذه القاعدة أصل متين في رد تأويلات المعطلة
فإن تأول متأول منهم علىٰ سبيل التمثيل في قوله تعالىٰ: (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدرِهِ وَالأَرضُ جَميعًا قَبضَتُهُ يَومَ القِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطوِيّاتٌ بِيَمينِهِ)، أنها مطويات بقدرته لا باليمين كما قال في موضع أخر: (لأخذنا منه باليمين)، أي بالقوة
قيل له: إن ذاك المخرج وإن كان محتملًا سياق الكلام هو أنكر وأبعد فبأي بينة عدلت إليه وملت؟
فذكر القبض يقدمه طوي باليمين، وكل ذلك من فعل اليد المعقول دال علىٰ أن اليمين يمين اليد
فتلك سياقة بينة غير جائز لأحد أن يخرج الكلام فيها عما هو عليه لوجه أخر هو إلىٰ النكارة والقلة أقرب وإن كان محتملًا
هذا وثالث أصل يُذكَر هو:
٣ - مراعاة لواحق الآيات وسوابقها
فمثلًا قوله تعالىٰ: ( أَلا لِلَّهِ الدّينُ الخالِصُ وَالَّذينَ اتَّخَذوا مِن دونِهِ أَولِياءَ ما نَعبُدُهُم إِلّا لِيُقَرِّبونا إِلَىٰ اللَّهِ زُلفى إِنَّ اللَّهَ يَحكُمُ بَينَهُم في ما هُم فيهِ يَختَلِفونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهدي مَن هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ )
إنما يراد بالكذبة الكذبة بقيلهم: إن للَّه تعالىٰ ولدًا، وذلك أنه قال في الآية اللاحقة:
( لَو أَرادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصطَفى مِمّا يَخلُقُ ما يَشاءُ سُبحانَهُ هُوَ اللَّهُ الواحِدُ القَهَّارُ )
فاحتج اللَّه علىٰ مدعي الولد له سبحانه ثم نزه نفسه عن إفكهم وكذبهم
فهذا بيان بين علىٰ أن المراد بالكاذب مدعي الولد له تعالىٰ، وتلك الدعوىٰ كذب صاحبها متقول بالكذب كما قال تعالىٰ: ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا )
فمعنىٰ الآية إذًا: إن اللَّه لا يهدي من هو كاذب مدعٍ للولد عليه فلن يهدي من تزلَّف إليه وتقرَّب بعبادة الأوثان وهو مدعٍ ما ادعاه عليه من الولد تعالىٰ
ولم يرد تعالىٰ بالكاذب في قوله: (إن اللَّه لا يهدي من هو كاذب كفار)، الكاذب بقيله: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلىٰ اللَّه)
فأولئك ما كذبوا بقيلهم ذاك إذ مرادهم بعبادة غير اللَّه القربة إليه حقًّا وصدقًا
وقد كانوا يقرون بروبية اللَّه كما ذكر تعالىٰ ذلك عنهم غير مرة، فإنما عبدوا الأصنام ابتغاء القربة لا اعتقادًا بأن لها نفعًا أو ضرًّا أو حظًّا من الربوبية
وقد كانوا باللَّه مؤمنين أي به وبربوبيته مصدقين، وإنما أشركوا في عبادته تعالىٰ
قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث:
( وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى}، يُرِيدُ: ضَالًّا عَنْ تَفَاصِيلِ الْإِيْمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ، فَهَدَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ}، يُرِيدُ مَا كُنْتَ تَدْرِي، مَا الْقُرْآنُ، وَلَا شَرَائِعُ الْإِيْمَانِ.
وَلَمْ يُرِدِ الْإِيْمَانَ الَّذِي هُوَ الْإِقْرَارُ، لِأَنَّ آبَاءَهُ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَىٰ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ كَانُوا يَعْرِفُونَ اللَّهَ تَعَالَىٰ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَحُجُّونَ لَهُ، وَيَتَّخِذُونَ آلِهَةً مِنْ دُونِهِ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَيْهِ تَعَالَىٰ فِيمَا ذَكَرُوا مِنْهُ
ويَتَوَقّوْنَ الظُّلْمَ، وَيَحْذَرُونَ عَوَاقِبَهُ، وَيَتَحَالَفُونَ عَلَى أَنْ لَا يُبغىٰ عَلَىٰ أَحَدٍ، وَلَا يُظْلَمَ
وَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِمَلِكِ الْحَبَشَةِ حِينَ سَأَلَهُ حَاجَتَهُ فَقَالَ: إِبِلٌ ذَهَبَتْ لِي، فعَجِبَ مِنْهُ، كَيْفَ لَمْ يَسْأَلْهُ الْانْصِرَافَ عَنِ الْبَيْتِ.
فَقَالَ: إِنَّ لِهَذَا الْبَيْتِ مَنْ يَمْنَعُ مِنْهُ، أَوْ كَمَا قَالَ
فَهَؤُلَاءِ كَانُوا يُقِرُّونَ بِاللَّهِ تَعَالَىٰ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ الطَّيِّبُ الطَّاهِرُ الْمُطَهَّرُ يُؤْمِنُ بِهِ قَبْلَ الْوَحْيِ؟، وَهَذَا لَا يَخْفَىٰ عَلَىٰ أَحَدٍ وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْهِ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَىٰ فِي قَوْلِهِ: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ}، أَنَّ الْإِيْمَانَ شَرَائِعُ الْإِيْمَانِ )
وإنما حُمِلَ قوله تعالىٰ: (من هو كاذب)، علىٰ دعوىٰ الداعي بالولد لا علىٰ دعوة الداعي بالتزلف والتقرب وإن كان المخرج الأظهر هو ذلك لحجة بينة من الكتاب
هذا ورابع أصل يُذكَر هو:
٤ - رد الآيات إلىٰ نظائرها وأشباهها
فشبه الآية ونظيرها خير بيان لها
فمثلًا قوله تعالىٰ: ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ )
نظير ذلك قوله تعالىٰ: ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا )
فعُلِمَ بشبه الآية فحواها، فالإمام المبين إنما هو الكتاب الذي أحصىٰ به تعالىٰ كل شيء
ويدل علىٰ ذاك المعنىٰ أيضًا قوله تعالىٰ قبلها: ( إنا نحن نحن نحيي الموتىٰ ونكتب ما قدموا وأثارهم )
فذكر الكتابة قبل أن يذكر الإمام الذي أُحصِيَ به كل شيء من أثار الموتىٰ وما قدموا
فعُلِمَ بهذا الدلالة التفسيرية أن المراد بالإمام الكتاب الذي كُتِبَ فيه كل شيء من أثار الموتىٰ وما قدموا وغير ذلك
وإنما سمي الكتاب إمامًا إذ كان يُؤتَمُ بما أحصاه ويُتبَع ما فيه كالإمام المتبوع من البشر، وأصل الإمام هو كل ما يُؤتَم به ويُتبَع
قال البخاري في صحيحه: ( وقال ابن عباس: الإمام كل ما ائتممت واهتديت به )
وبنحو ما قلت قال أهل التأويل في الآية، فقال مجاهد: (في إمام مبين)، في أم الكتاب
وقال قتادة: (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)، كل شيء محصًى عند اللَّه في كتاب
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)، أم الكتاب التي عند اللَّه فيها الأشياء كلها هي الإمام المبين
واعلم رحمك اللَّه أن حق الكلام الأغلب من معانيه الأعرف دون الأقل من معانيه الأنكر الأجهل إلا ببينة كما ذكرنا من قبل
فإنما عدل أهل التأويل عن معنىٰ الإمام المُقتَدى به من الأحياء وهو أغلب معاني الإمام إلىٰ معنىٰ الكتاب الذي يُتبَّع ما فيه إذ دل دليل الكتاب فأبان أن المراد بالإمام إنما هو الكتاب
ومثلًا قوله تعالىٰ: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )
هو شبيه بقوله تعالىٰ عن نساء النبي ﷺ: ( لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ )
وليس مفهوم من نفي المثلية والشبه عنهن أن لا مشترك بينهن وبين سائر نساء المؤمنين بقدر
وكذلك غير مفهوم عند العرب من ثبوت مثلية الشيء وشبهه أن لا فارق بينه وبين شبيهه بقدر
تقول العرب: من أشبه أباه فما ظلم، ولا يعنون بالابن المشبه أباه الذي لا يغايره ولا يخالفه في أول الأمر أمره
وتقول: فلان ليس مثله أحد، ولا يعنون أنه لا يشارك غيره في شيء بقدر
هذا ما لا تفهمه العرب ولا تعقله
فإذا كان الأمر كذلك فمعقول في القلوب أن لنساء النبي ﷺ مقام وحال مشتركة في أصلها مع بقية نساء المؤمنين مختلفة من بعد ذلك فيما سوىٰ ذلك ومفترقة
فلنساء النبي ﷺ ونساء المؤمنين حال الإثابة علىٰ الإحسان والإيمان والمؤاخذة علىٰ الإساءة والكفران حال مشتركة غير مختلفة
ومن بعد تختلف الحال وتتباين إذ كان لنساء النبي ﷺ وأمهات المؤمنين حالة خاصة بأن لهن مزيد إثابة علىٰ الخير وضعف عذاب علىٰ الشر
قال تبارك وتعالىٰ: ( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَن يَأتِ مِنكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَف لَهَا العَذابُ ضِعفَينِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسيرًا ٣١ وَمَن يَقنُت مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسولِهِ وَتَعمَل صالِحًا نُؤتِها أَجرَها مَرَّتَينِ وَأَعتَدنا لَها رِزقًا كَريمًا )
فبان بمضاعفة العذاب لهن، وزيادة الأجر قوله من بعد عنهن: (لستم كأحد من النساء)
ولا جرم أن أصل الأجر علىٰ الخير، والعذاب علىٰ الشر مشترك
وكذلك أبان اللَّه سبحانه وتعالىٰ بقوله: (وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ)، وقوله: (لهُ مَقاليدُ السَّماواتِ وَالأَرضِ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ وَيَقدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ)
أبان أن لا مثل له ولا شبيه في نفسه وصفته إذ كان لا يسمع أحد من خلقه ويبصر ولا يملك ويَغنَىٰ ولا يبسط رزقه أو يقدر علىٰ علم منه إلا وهو كذلك بقدر ما حد اللَّه له وأمكنه من ذلك
واللَّه مخالف لذلك بصير بما في السماوات والأرض فلا يفوته شيء لشيء، وسميع لما في السماوات والأرض فلا يختلط عليه شيء بشيء
ويملك مفاتيح السماوات والأرض دون تمليك أحد له مفتاح شيء وبغير نهاية لملكه ولا أمد عند شيء دون شيء
ويبسط رزقه وعطاءه لمن يشاء ويقدر دون أن يُعطَىٰ غير مُزادٍ ولا مَنقوصٍ في ملكه ومفاتيحه شيئًا علىٰ علم منه بصلاح المُقدَّر عليه بما قدر وصلاح المُوسَّع عليه بما وسع إنه كان بكل شيء عليمًا وبعباده خبيرًا بصيرًا
قال اللَّه تبارك وتعالىٰ في الحديث القدسي: ( يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم اجتمَعوا في صعيدٍ واحدٍ، فسألوني، فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ منهم مسألتَهُ ما نقصَ ذلِكَ في مُلكي شيئًا إلَّا كما يَنقصُ البحرُ إن يُغمَسْ فيهِ المِخيَطُ غمسةً واحدَةً )
فهذا كذلك ولا جرم أن أصل المذكور من الصفات معلوم في الخلق ومشترك
ألا تراه يقول عن الإنسان: (فَجَعَلنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)، فسمىٰ الإنسان سميعًا بصيرًا
وقال: (اجعَلنِي عَلَىٰ خَزَائِن الأَرْض إنِّي حَفِيظ عَلِيم ٥١ وكذَلِكَ مكنَّا ليُوسُفَ فِي الأَرْض)
فتَسمَّىٰ بعض خلقه بالعليم، وملك من خزائن الأرض ومفاتيحها ما ملك
وقال: (وَلا تَجعَل يَدَكَ مَغلولَةً إِلىٰ عُنُقِكَ وَلا تَبسُطها كُلَّ البَسطِ فَتَقعُدَ مَلومًا مَحسورًا)
فبعض خلقه قادر علىٰ أن يبسط رزقه وعطاءه, وقادر علىٰ أن يمسكه ويقدره
واللّه كذلك علىٰ الوجه اللائق به سميع بصير، وحفيظ عليم، ويملك مفاتيح الأرض وخزائنها: (يبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ وَيَقدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبيرًا بَصيرًا)
وعلىٰ هذا سائر الصفات من الغضب والرضىٰ والوجه واليد وغير ذلك في الاشتراك بالأصل والافتراق فيما سواه افتراقًا تعلو به صفته تعالىٰ عن كل صفة فلا تشبهها ولا تماثلها
ولهذا قال تعالىٰ: (وللَّه المثل الأعلىٰ) أي الصفة الأعلىٰ التي علت غيرها كمالًا جمالًا وجلالًا
قال ابن قتيبة في غريب القرآن: ” ٢٦- و: (مثله الأعلى)، لا إله إلا اللَّه، ومعنىٰ المثل هاهنا معنىٰ الصفة أي هذه صفته وهي أعلىٰ من كل صفة إذ كانت لا تكون إلا له ”
فمن وصفه سبحانه بصفاته علىٰ علوها ومزيتها وإن كان أصلها مشتركًا فقد أصاب حظه وبَرِئ من تشبيه ربه
قال أبو عيسىٰ الترمذي في جامعه:
” وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: إِنَّمَا يَكُونُ التَّشْبِيهُ إِذَا قَالَ: يَدٌ كَيَدٍ أَوْ مِثْلُ يَدٍ، أَوْ سَمْعٌ كَسَمْعٍ أَوْ مِثْلُ سَمْعٍ، فَإِذَا قَالَ سَمْعٌ كَسَمْعٍ أَوْ مِثْلُ سَمْعٍ، فَهَذَا التَّشْبِيهُ.
وَأَمَّا إِذَا قَالَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: يَدٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ، وَلَا يَقُولُ كَيْفَ، وَلَا يَقُولُ مِثْلُ سَمْعٍ وَلَا كَسَمْعٍ، فَهَذَا لَا يَكُونُ تَشْبِيهًا، وَهُوَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ فِي كِتَابِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. ”
أقول: إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه الإمام المعروف
وقد ذكر اليد فيما ذكر من السمع والبصر غير مُفرِّق بينهما في نفي التشبيه وتثبيت الصفة كما قال تعالىٰ صِفةً عليةً
وقال أبو سعيد الدارمي في نقضه [٣٥٠ - ٣٥١]:
” (٢٢٦) حدثنا سلام بن سليمان المدائني، ثنا شعبة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - قال: ليس للَّه مثل
ونحن نقول كما قال ابن عباس: ليس للَّه مثل ولا شبه، ولا كمثله شيء، ولا كصفاته صفة، فقولنا: ليس كمثله شيء أنه شيء أعظم الأشياء، وخالق الأشياء، وأحسن الأشياء، ونور السماوات والأرض
وقولهم ليس كمثله شيء يعنون: لا يثبتون في الأصل شيئًا، فكيف المثل؟، وكذلك صفاته ليس عندهم شيء ”
أثر ابن عباس صحيح قد ثبته الدارمي، وتوبع عليه شيخه فلا يضر ما قيل فيه
وابن عباس قد قال ما قال وهو القائل: (الكرسي موضع القدمين)
فلم يفهم وهو العربي الأصيل من نفي التشبيه انتفاء الصفة من أساسها وأصلها المشترك المفهوم المعقول
وقوله: (لا يثبتون في الأصل شيئًا، فكيف المثل؟)
هذا قول فاهم لما يقول، فإن القوم يفهمون من نفي التشبيه انتفاء الأصل والأساس المشترك من الشيء، فلا يشترك عندهم مع غيره في شيء بقدر
وهذا ما لا يُعقَل ولا يُقبَل، فإن ما هو كذلك ليس شيئًا بأصل حتىٰ يُنفَىٰ عنه المثل بقدر فارق يميزه عن غيره ويُخالِفه عنه
فقول الدرامي: (لا يثبتون في الأصل شيئًا، فكيف المثل؟)، يعني به: لا يثبتون بالأصل شيئًا
وقد قال أبو بكر الخلال في السنة:
” ١٦٩٧ - أخبرنا أبو بكر، قال: سمعت أحمد الدورقي، قال: سمعت يزيد بن هارون، وذكر الجهمية، فقال: هم كفار، لا يعبدون شيئًا ”
هذا ومن أمثلة رد الشيء إلىٰ نظيره ما ذكره البخاري في صحيحه فقال:
” قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿مَآرِبُ﴾، حَاجَةٌ، قَالَ طَاوُسٌ: ﴿أُولِي الإِرْبَةِ﴾ الْأَحْمَقُ، لَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ ”
فرد الآية الثانية إلىٰ الأولىٰ وألحق معناها بها، وهذا من فقه البخاري التفسيري رحمه اللَّه
هذا وخامس أصل يُذكَر هو:
٥ - مراعاة ما سبق الكلام وتقدمه وما لحق الكلام وتأخر عنه
فمثلًا قوله تعالىٰ: ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ )
اختلفت فيه الأقوال، فمن قائل أن يونس ﷺ إنما كان مغاضبًا لقومه، ومن قائل أنه إنما كان مغاضبًا لربه
وهذان قولان قريبان في سياق الكلام ولكن في ما سُبِقَ به الكلام دليل علىٰ أن أشبه القولين بالآية القول الثاني إذ قال تعالىٰ: (فظن أن لن نقدر عليه)، أي أن لن نضيق عليه بالعقوبة والبلاء
قال أبو جعفر الطبري:
” وهذا القول، أعني قول من قال: ذهب عن قومه مغاضبًا لربه أشبه بتأويل الآية، وذلك لدلالة قوله: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) علىٰ ذلك ”
وقال سفيان الثوري في تفسيره:
” عن إسماعيل بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ سَعِيدِ بن جبير في قوله: (مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عليه)، قال: ذهب مغاضبًا لربه ”
أقول: ابن عبد الملك بن أبي الصفيراء ضعيف ولكنه في أثر قصير مقطوع محتمل بالأصل
قال الإمام أحمد عن مجالد بن سعيد وهو ضعيف: ( ليش بشيء، يرفع حديثًا كثيرًا لا يرفعه الناس، وقد احتمله الناس )
يريد احتملوه في المقطوعات القصيرة التي يرويها إذ تلك أمرها هين لقرب الإسناد والمتن ولمخالفة الجادة التي عامة أغلاط الضعفاء والمتلقنين والمختلطين تكون بسلوكها
فالجادة في الأسانيد الوصل والرفع، فالرواية المقطوعة من الضعيف بخلاف الجادة
وبعد هذا فإن قيل: ما سبب مغاضبته ﷺ لربه؟
قيل: قد ذكر في ذلك أبو جعفر الطبري عدة أقوال
قال رحمه اللَّه:
” علىٰ أن الذين وجهوا تأويل ذلك إلىٰ أنه ذهب مغاضبًل لقومه، إنما زعموا أنهم فعلوا ذلك استنكارًا منهم أن يغاضب نبيّ من الأنبياء ربه، واستعظامًا له، وهم بقيلهم أنه ذهب مغاضبًا لقومه قد دخلوا في أمر أعظم مما أنكروا
وذلك أن الذين قالوا: ذهب مغاضبًا لربه اختلفوا في سبب ذهابه كذلك
فقال بعضهم: إنما فعل ما فعل من ذلك كراهة أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم، واستحيا منهم، ولم يعلم السبب الذي دفع به عنهم البلاء
وقال بعض من قال هذا القول: كان من أخلاق قومه الذين فارقهم قتل من جربوا عليه الكذب، عسىٰ أن يقتلوه من أجل أنه وعدهم العذاب فلم ينزل بهم ما وعدهم من ذلك
وقد ذكرنا الرواية بذلك في سوره يونس، فكرهنا إعادته في هذا الموضع
وقال آخرون: بل إنما غاضب ربه من أجل أنه أمر بالمصير إلىٰ قوم لينذرهم بأسه، ويدعوهم إليه، فسأل ربه أن ينظره، ليتأهب للشخوص إليهم
فقيل له: الأمر أسرع من ذلك، ولم ينظر حتىٰ شاء أن ينظر إلى أن يأخذ نعلًا ليلبسها، فقيل له نحو القول الأول، وكان رجلًا في خلقه ضيق، فقال: أعجلني ربي أن آخذ نعلًا فذهب مغاضبًا
وممن ذُكر هذا القول عنه: الحسن البصري، حدثني بذلك الحارث، قال: ثنا الحسن بن موسىٰ، عن أبي هلال، عن شهر بن حوشب، عنه.
قال أبو جعفر: وليس في واحد من هذين القولين من وصف نبيّ اللَّه يونس صلوات اللَّه عليه شيء إلا وهو دون ما وصفه بما وصفه الذين قالوا: ذهب مغاضبًا لقومه
لأن ذهابه عن قومه مغاضبًا لهم، وقد أمره اللَّه تعالىٰ بالمقام بين أظهرهم ليبلغهم رسالته، ويحذّرهم بأسه، وعقوبته علىٰ تركهم الإيمان به، والعمل بطاعتك لا شك أن فيه ما فيه
ولولا أنه قد كان ﷺ أتىٰ ما قاله الذين وصفوه بإتيان الخطيئة، لم يكن اللَّه تعالىٰ ذكره ليعاقبه العقوبة التي ذكرها في كتابه، ويصفه بالصفة التي وصفه بها، فيقول لنبيه ﷺ: (وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ)
وَيَقُولُ: (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ”
أقول: القول الأول الذي ذكره مروي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما
هذا وبقي قول لم يُذكَر في الآية ذكره ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن، وهو أن الغضب بمعنىٰ الآنفة علىٰ سبيل الاستعارة
وأن يونس ﷺ لما أوعد قومه عن اللَّه إيقاع العذاب ثم لم يقع خشي أن يُعيَّر ويُنسَب لكذب وقد كان علىٰ قومه متغيظًا مما عاناه مشتهيًا لأن ينزل بهم أمر اللَّه فذهب آنفًا من قومه ورادًّا لتوبتهم عن حمية قد دخلته
وهذا قول حسن في أول وهلة غير أن مخرج الكلام فيه من أن معنىٰ الغضب الآنفة بخلاف الأظهر والأغلب وإن كان محتملًا سياق الكلام
ومثلًا قوله تعالىٰ: ( وَهُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ لِباسًا وَالنَّومَ سُباتًا وَجَعَلَ النَّهارَ نُشورًا )
اختُلِفَ فيه فمن قائل أنه جعل النهار نشورًا ينتشر فيه الناس، ومن قائل أنه جعل النهار نشورًا وحياةً ويقظةً
وهذان قولان ظاهران في السياق ومعقولان فالنوم في الليل سكونًا به إذ كان سكنًا من بعده نهار هو حياة منه بالحركة وكذا من بعده نهار هو معاش به ينتشر الناس كما قال تعالىٰ: ( وَجَعَلنا نَومَكُم سُباتًا ٩ وَجَعَلنَا اللَّيلَ لِباسًا ١٠ وَجَعَلنَا النَّهارَ مَعاشًا )
فذكر النهار معاشًا بعد ذكره الليل لباسًا، وتلك الآيات شبيهة بالآية التي معنا فهذا سبب قول من قال أن قيله: ( وجعل النهار نشورا )، أي معاشًا
فهذا كذاك غير أن أظهر القولين أنه جعل النهار حياةً ويقظةً من النوم بالليل إذ كان النوم موتًا كما قال تعالىٰ: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها )
وإنما كان ذلك الأظهر للفارق الدقيق الذي غاير بين الآية وتلك الآيات التي في سورة النبأ وهو ما لحق ذكر النهار وأُتبِعَ به من قوله: ( والنوم سباتًا )
ومثلًا قوله تعالىٰ: ( فَقولا لَهُ قَولًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشى )
مجمل في عين القول اللين المأمور به لا يُدرَىٰ ما هو غير أن فيما تقدم بيان ذلك: ( فَأتِياهُ فَقولا إِنّا رَسولا رَبِّكَ فَأَرسِل مَعَنا بَني إِسرائيلَ وَلا تُعَذِّبهُم قَد جِئناكَ بِآيَةٍ مِن رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى ٤٧ إِنّا قَد أوحِيَ إِلَينا أَنَّ العَذابَ عَلى مَن كَذَّبَ وَتَوَلّى )
وكذا في قوله في موضع أخر: ( فَقُل هَل لَكَ إِلى أَن تَزَكّى ١٠ وَأَهدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخشى )
وما ذكر تعالىٰ من قيل هارون وموسىٰ: ( إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى )، بعد قيلهما: ( قد جئناك بآية من ربك )، وبعد قيله: ( قد جئتكم ببينة من ربكم )
يدل علىٰ أن تخويف المدعو بالعذاب لا يضاد الدعوة بلين القول بل هو منها إن كان ذلك يُقَال نصحًا للمقول له أو مخافةً عليه بعد تثبيت البينة
ومن ذلك قول إبراهيم ﷺ لأبيه بعد تثبيت الحجة عليه بقوله: ( يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا )
فقال له: ( يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا )
فهو صلوات اللَّه وسلامه عليه يخاف عليه من العذاب فيذكر ذلك تخويفًا له خشية أن يحق عليه
وبعد فقوله تعالىٰ: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي أحسن )، وقوله: ( ادع إلىٰ سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة )
من الدعاء بلين القول والموعظة الحسنة للناس والمجادلة بالحُسنَىٰ للمسترشد تخويفهم بالعذاب بعد تثبيت الآية والبينة لئلا يحق عليهم إن خالفوها
هذا وسادس أصل يُذكَر:
مراعاة دلالة العكس أو الضد
فإن تثبيت عكس الشيء وضده تثبيتٌ للشيء
فمثلًا قوله تعالىٰ عن أهل الكفر: ( فَما تَنفَعُهُم شَفاعَةُ الشّافِعينَ )
تثبيتٌ لنفع شفاعة الشافعين أهل الإيمان بتثبيت عكس ذلك
وهي الشفاعة المنجية من النار إذ كانت الآية متبوعة ومتلوة بقوله: ( ما سلككم في سقر )، إلىٰ أخر الكلام
فظاهر أن المعني بالكلام: فما تنفعهم الذين سلكوا سقر شفاعة الشافعين فيخرجوا منها بعد إذ سُلِكُوا فيها
فهذا كذاك ولأن تلك الشفاعة هي متمنىٰ الكفار فأخبار تعالىٰ أنها غير نافعة لهم
قال تعالىٰ عن قيل الكفار إذا ما كُبكِبُوا في النار: ( فمالنا من شافعين ١٠٠ ولا صديق حميم ١٠١ فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين )
أي فنكون منهم فننجوا من النار
فإنما تمنوا شفاعة تنجيهم من النار بعد إذ دخلوها وكُبكِبُوا فيها فأخبر تعالىٰ أن لا شفاعة لهم في غير موضع فلا يخرجون منها
وذلك كما قال تعالىٰ: ( إِنَّ الَّذينَ كَفَروا لَو أَنَّ لَهُم ما فِي الأَرضِ جَميعًا وَمِثلَهُ مَعَهُ لِيَفتَدوا بِهِ مِن عَذابِ يَومِ القِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنهُم وَلَهُم عَذابٌ أَليمٌ ٣٦ يُريدونَ أَن يَخرُجوا مِنَ النّارِ وَما هُم بِخارِجينَ مِنها وَلَهُم عَذابٌ مُقيمٌ )
فالذين كفروا ما هم بخارجين منها إذ لا تنفعهم شفاعة الشافعين فمن تنفعهم شفاعة الشافعين هم خارجون منها إذًا
قال أبو جعفر الطبري في التفسير:
” {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ}، يقول: فما يشفع لهم الذين شفعهم اللَّه في أهل الذنوب من أهل التوحيد، فتنفعهم شفاعتهم.
وفي هذه الآية دلالة واضحة علىٰ أن اللَّه تعالىٰ ذكره مُشفِّعٌ بعضَ خلقه في بعض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: {فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ}، تعلمون أن اللَّه يشفع المؤمنين يوم القيامة
ذُكر لنا أن نبيّ اللَّه ﷺ كان يقول: إنَّ مِنْ أُمَّتِي رجُلاً يُدْخِلُ اللَّهُ بِشَفاعَتِهِ الجَنَّةَ أكْثَرَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ
قال الحسن: أكثر من ربيعة ومضر
كنا نحدَّث أن الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته ”
هذا سند صحيح
هذا والذي ذكرت ذكرته تثبيتًا للأصل والأساس في الشفاعة المُنكَرة عند أهل البدع
فليس الوجه أن كل موحد محقوق بها فمنتفع ولا أن كل موحد معها علىٰ حال وأمر واحد
فالشفاعة لها أسباب وشروط كما قال تعالىٰ: ( ولا يملك الذين من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون )
فاشترط الشهادة بالحق مع العلم بها، وكذا يُشتَرط معها الإخلاص والنية ليُشفَّع المرء فيسعد لقوله ﷺ: ( أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا اللَّه خالصًا من قلبه )
فمن لا إيمان له ولا إخلاص البتة فليس ممن يسعد بالشفاعة فضلًا عن أن يكون من أسعدهم
ولهذا قال أبو عوانة الإسفراييني في عقيدته: ” وأن الشفاعة لا تنفع من قال لا إله إلا اللَّه ولم يكن في قلبه من الخير شيء ”
فذلك مع شروط أخرىٰ تُذكَر للمشفوع له
وقال تعالىٰ: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولًا )، وقال: ( وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن اللَّه لمن يشاء ويرضىٰ )
فاشترط إذنه ورضاه عن المشفوع له وقوله - يعني قول لا إله إلا اللَّه -، وهذا من جهته تبارك وتعالىٰ
فصار هناك شروط من جهة العبد وربه
وبهذا يُعلَم أن الشفاعة ليست واسطة هي مَجرَأةٌ علىٰ العصيان ولا أنها كشفاعة الكفار التي شرطها وسببها الشرك والكفران بل هي غير مُستَحقة إلا لمن شهد بالحق فوحَّد
وقد قال رسولُ اللَّهِ ﷺ: ( أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا اللَّه خالصًا من قلبه )
فكلما زاد الإخلاص كان المشفوع منتفعًا بأشد وفَرِحًا بأعظم
وهي علىٰ درجات فمن الناس من تنفعه الشفاعة فيخرج من النار إذ هو دخلها، ومنهم من تنفعه فلا يدخلها إذ هو استحقها ولما بعد يدخلها
ومنهم من لا يُشفَّع فيبقىٰ في النار خالدًا إلىٰ ما شاء اللَّه الفعال لما يريد من إخراجه كما قال تعالىٰ: ( خالِدينَ فيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأَرضُ إِلّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِما يُريدُ )
قال الطبري في التفسير:
” حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: {خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السمَواتُ والأرْضُ إلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ}
واللَّه أعلم بثنيته ذكر لنا أن ناسًا يصيبهم سفع من النار بذنوب أصابتهم، ثم يدخلهم اللَّه الجنة بفضل رحمته يقال لهم: الجهنميون ”
هذا من قتادة تفسير للقرآن بالسنة المبينة له
فهو أراد بقوله: ”ذُكِر لنا”، حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه الذي رواه هو عنه عن النبي ﷺ أنه قال: ( يخرج قوم من النار بعد ما مسهم منها سفع، فيدخلون الجنة، فيسميهم أهل الجنة الجهنميين )
فإن قيل بعد هذا: أوليس مخرج الكلام عن الكفار إذ هم المذكورون بالخلود في غير موضع في الكتاب فأشبه وأمثل أن ما ذُكِرَ من الخلود في الآية هو عنهم لا غير
فما وجه ذلك القيل المذكور والتفسير المأثور؟
قيل: إن أهل الذنوب من الموحدين قد ذُكِروا بالخلود أيضًا كما في قوله: ( ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاءه جهنم خالدًا فيها )
فهم داخلون في الآية، فأشبه وأمثل أن الاستثناء حينئذٍ عليهم إذ بينت السنة ذلك
وبين الكتاب أن المتمنين من الكفار خروجًا من النار ما هم بخارجين منها ولا بمُشفَّعين بشفاعة الشافعين لأجل ذلك
هذا وتتمة الأصل المذكور أن يُقَال: ليس في الكلام الذي جرىٰ مجرى الغالب والأكثر دلالة عكس ولا ضد
فعلىٰ سبيل التمثيل قوله تعالىٰ: ( وَمِن شَرِّ النَّفّاثاتِ فِي العُقَدِ )، بذكر النفاثات دون النفاثين إذ كان الأمر في النساء أغلب وأكثر لا يعني: أن لا عياذَ من شر النفاثين في العقد
هذا وسابع أصل يُذكَر:
مراعاة الأمر المذكور في حين بالتنبِّه لذكره في الحين الأخر
فإن السورة قد يُذكَر فيها ذكر وأمر فيذكر في سورة أخرىٰ علىٰ زيادة مغنية أو تبيان مُبيِّن أو اختلاف نافع
فمثلًا قوله تعالىٰ في سورة الحجر: ( فَأَسرِ بِأَهلِكَ بِقِطعٍ مِنَ اللَّيلِ )، لا يُدرَىٰ أي قطعة وبعض من الليل سار بها لوط ﷺ وأهله فنجوا؟
غير أنه قال تعالىٰ: ( إِنا أرسلنا عليهم حاصبًا إِلا آل لوط نجيناهم بسحر )
فذكر قطعة الليل التي نجوا بها بالمسير مبينًا أنها في حين وزمن السحر قبيل الفجر الذي هو موعد قوم لوط ﷺ
ومثلًا قوله تعالىٰ: ( فَكَذَّبوهُ فَعَقَروها )
ظاهره اجتماع القوم علىٰ العقر غير أنه في سورة القمر قال: ( فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر )
فذكر العقر مبينًا أنه من المُنَادىٰ خاصةً بأمرهم عامةً
فأُسنِدَ لهم الفعل إذ كان عن سببهم فهم المنادون، وكذلك كانت تفعل العرب فتسند الفعل والأمر الذي كان بسبب وأمر فلان إليه
وهذا من طرقها في الكلام وتفننها في المقام
قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن عن ذلك: ” وكلُّ فعلٍ أمرت به، فأنت الفاعل به، وإن وليته غيرك ”
ومثل ذلك المجاز والطريقة إنما يُعدَل إليها في تفسير الكتاب والسنة حين البينة والاستبانة أن الكلام علىٰ خلاف مخرجه الظاهر فأما والبينة غير حاضرة فلا
ومثلًا قوله تعالىٰ في الشعراء: ( وَلَأُصَلِّبَنَّكُم أَجمَعينَ )، وقال في الأعراف: ( لَأُصَلِّبَنَّكُم أَجمَعينَ )
ذكر تعالىٰ الصلب في غير طه والأعراف علىٰ زيادة مغنية
فقال في طه: ( فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل )
فالصلب علىٰ جذوع النخل
وذكر في غير طه والشعراء الصلب علىٰ اختلاف نافع، فقال: ( لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم )
فالصلب بعد التقطيع لا قبله أو معه، لأنه جاء بالعاطف: (ثم)، فدل علىٰ التراخي
واللَّه أعلم، وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد
تعليقات
إرسال تعليق