علة رواية المبتدع ما ينصر هواه وبدعته...
بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه، وبعد:
فإن رواية المبتدع شيئًا يعضد هواه وينصره، وهو في ذلك منفرد بما رواه من دون الأولىٰ بمعرفة وحفظ ما روىٰ إن كان معروفًا محفوظًا.
هذا من العلل المُعتَبرة عند الأئمة، والإعلال به جادة.
قال عبد اللَّه بن أحمد في السنة:
” ٣٠٣ - حدثني هارون بن عبد اللَّه أبو موسىٰ، ثنا سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، قال: جلست إلىٰ أبي حنيفة بمكة، فذكر سعيد بن جبير، فانتحله في الإرجاء
فقلت: من يحدثك يا أبا حنيفة؟، قال: سالم الأفطس، فقلت له: فإن سالمًل يرىٰ رأي المرجئة
ولكن حدثنا أيوب، قال: رآني سعيد بن جبير جلست إلىٰ طلق بن حبيب فقال: ألم أرك جلست إلىٰ طلق؟، لا تجالسه
قال: فكان كذلك. ”
سالم غير متهم، ولكنه مرجئ قد روىٰ ما يعضد هواه، وانفرد بما لا يعلمه الناس، ولا يحفظه أصحاب سعيد عنه
فهذا سبب وعلة بها كُشِفَ غلطه - ولم يتعمده - خصوصاً أن الشهير الذي قد عُرِفَ وحُفِظَ عن سعيد بخلاف ما روىٰ.
ولعله تساهل في السماع، فأخذ عمن ليس بأهل أن يُؤخَذ عنه، ليتنصر للإرجاء، واللَّه العالم.
وقال عبد اللَّه أيضًا:
” ٢٧٩ - حدثني سلمة بن شبيب، ثنا سلمة بن عبد الحميد الحماني، قال: ربما رأيت سفيان الثوري مغطىٰ الرأس، يأتي مجلس أبي حنيفة، فيجلس فيه
قال سلمة: فذكرت ذلك للفريابي، فقال: سمعت سفيان يقول: ما سألت أبا حنيفة قط عن شيء، ولقد كان يلقاني، فيسألني
قال أبو عبد الرحمن: عبد الحميد الحماني أبو يحيىٰ مرجئ شديد الإرجاء داعٍ، وكان الشيخ يذمه ”
يريد بالشيخ أباه أحمد رحمه اللَّه.
والرواية عن رؤية مباشرة أمرها هين، ولكن لما كان في رواية سلمة مدح لإمامه، استبان مراده بما روىٰ، أنه يتقصد نصرته وإعلاءه
فهذا مع انفراده بشيء لم يعرفه الناس، ولا حفظه أصحاب سفيان عنه، أعني الفريابي وابن المبارك خاصة
فلما كانت الحال كذلك، كان في ما رواه علة، وريب وشك.
فكيف يُقبَل منه روايته مع ما سبق ذكره، ومع أن المعروف عند أصحاب سفيان المحفوظ عنه خلاف ما روىٰ.
فمن ذلك ما تقدم ذكره من قيل سفيان الذي حفظه الفريابي
وأثر الفريابي ثبَّتهُ ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل، واحتج به علىٰ إمامة سفيان عند أبي حنيفة، إذ كان يأتي له بالمسألة فيما أشكل عليه وخفي.
ومنه ما نص عليه ابن المبارك من أنه كان يأتي أبا حنيفة سرًّا من سفيان
وهذا دال علىٰ بعد سفيان عن مجلس أبي حنيفة، وكراهيته لمجالسته.
وقد كان سفيان شديدًا في أمر أبي حنيفة، حتىٰ أنه كان ينكر علىٰ من يجالسه
وقال لعيسىٰ بن يونس: تجلس إليه؟، يعني أبا حنيفة.
فكيف بعد هذا كله ينفرد عنه مرجئ يبتغي الثناء علىٰ إمامه بما لا يعرفه الناس ولا خاصة أصحاب سفيان وهو خلاف ما قد عُرِفَ عنه وحُفِظَ؟
فالأثر معلول منكر لا شك.
والأثار المباشرة عن سماع أو رؤية الأصل أن تُحتمَل ولو عن ضعيف شديد الضعف
وكذلك كان مذهب الأئمة، ولكن ذلك مشروط بسلامة الرواية من المخالفة والعلة.
وقال أبو الحسين مسلم بن الحجاج في التمييز:
” فأمَّا رواية أبي سنان، عن علقمة: في متن هذا الحديث إذ قال فيه: إنَّ جبريل عليه السلام حيث قال: جئت أسألك عن شرائع الاسلام
فهذه زيادةٌ مختلقةٌ، ليست من الحروف بسبيل، وإنَّما أدخل هذا الحرف في رواية هذا الحديث شرذمة زيادة في الحرف مثل ضرب النعمان بن ثابت، وسعيد بن سنان، ومن يجاري الارجاء نحوهما
وإنَّما أرادوا بذلك تصويبًا في قوله في الإيمان، وتعقيد الإرجاء، ذلك ما لم يزد قولهم إلَّا وهنًا، وعن الحق إلًا بُعْدًا، إذ زادوا في رواية الأخبار ما كُفي بأهل العلم
والدليل علىٰ ما قلنا من إدخالهم الزيادة في هذا الخبر: أن عطاء بن السائب وسفيان روياه عن علقمة فقالا: قال: يا رسول اللَّه ما الاسلام؟
وعلىٰ ذلك رواية النَّاس بعد مثل سليمان ومطر وكهمس ومحارب وعثمان وحسين بن حسن وغيرهم من الحفاظ كلهم يحكي في روايته أنَّ جبريل عليه السلام قال: يا محمد ما الاسلام
ولم يقل: ما شرائع الاسلام كما روت المرجئة. ”
يعني لما روى أبو حنيفة وسعيد بن سنان تلك الزيادة المؤيدة لهواهما، وانفردا بها من دون الكوفيين وسفيان وعطاء
ومن دون البصريين الذين خالفوا الكوفيين في السند، واتفقوا معهم علىٰ المتن
واختلافهم يقوي ما اتفقوا عليه إذ لم يختلفوا فيه، فكان متكررًا محفوظًا معلومًا لا يُجْهَل، فيخالف.
فلما كان الحال كذلك، كانت تلك الزيادة منكرة شديدة النكارة، ولو كانت محفوظة معلومة لكان الحفاظ أولىٰ بها من بعض المرجئة الذين قصدوا نصرة الإرجاء.
والانفراد الذي فيها أشد من غيره.
ولعل مسلمًا لهذا اتهم أبا حنيفة وسعيدًا أنهما زادا في الحرف، واللَّه أعلم.
وقال ابن رجب في شرح علل الترمذي:
( وذكر مسلم ـ أيضاً ـ في هذا الكتاب رواية من روىٰ من الكوفيين ممن روىٰ حديث ابن عمر في سؤال جبريل للنبي ﷺ عن شرائع الإسلام، فأسقطوا من الإسناد عمر، وزادوا في المتن ذكر الشرائع.
قال مسلم في هذه الزيادة: هي غير مقبولة، لمخالفة من هو أحفظ منهم من الكوفيين كسفيان، ولمخالفة أهل البصرة لهم قاطبة، فلم يذكروا هذه الزيادة، وإنما ذكرها طائفة من المرجئة ليشيدوا بها مذهبهم
وفي كلامه ما يدل علىٰ أن صاحب الهوىٰ إذا روىٰ ما يعضد هواه، فإنه لا يقبل منه، لا سيما إذا انفرد بذلك )
الشاهد كلامه الأخير.
والأن سنأتي لمثال نطبق عليه ما قد ذكرت.
قال أبو بكر بن أبي شيبة في مصنف الإيمان به:
” ٣٢ - حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: تَسَمَّوْا بِاسْمِكُمُ الَّذِي سَمَّاكُمُ اللَّهُ بِالْحَنِيفِيَّةِ، وَالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. ”
هذا الأثر راويه أبو معاوية، مرجئ معروف، وظاهره نصرة الإرجاء، وأن التسمية بالإيمان من دون استثناء جائزة كالتسمية بالإسلام.
وكيف ذلك وقد نهىٰ النبي ﷺ سعد بن أبي وقاص عن أن يقول مؤمن، وقال: أومسلم.
وقد انفرد أبو معاوية بما رواه عن عبد اللَّه بن يزيد التابعي من دون الناس، والأئمة المطلعين العارفين
وهم أولىٰ بمعرفة ذلك عنه إن كان معلومًا صحيحًا.
ولهذا الذي ذكرت عُلِمَ أن لما رواه علة وسبب به عُرِفَ غلطه ووهمه فيه.
هذا وقد غلط الشيخ الألباني رحمه اللَّه، فصحح الأثر، ولم ينتبه إلىٰ ما فيه من العلة.
واللَّه أعلم، وصل اللهم وسلم علىٰ معلم الناس الخير
تعليقات
إرسال تعليق