لم نزل القرآن متفرقًا علىٰ محكم ومتشابه؟
بسم اللَّه والصلاة والسلام علىٰ رسول اللَّه، فإني أحمد اللَّه وأستعينه، ولا حول ولا قوة إلا به.
فلعل سائلّا يسأل: لم نُزِّل القرآن متفرقًا علىٰ محكمٍ ومتشابهٍ؟
أليس اللَّه مريدًا بعبادِهِ الهدىٰ والبيان؟، فلم لم يحكم كل كتابِه ووحيه؟
أليس مريدًا بعبادِه التخفيفَ والرحمةَ بوحيهِ؟، فلم لم يجمعه، فيُنزِله مُكمَّلًا تامَ السورِ في حينٍ؟
فيقال: فأما إنزال الكتاب علىٰ محكم ومتشابه، فإن حكمتَهُ مشار إليها في الكتابِ، إذ قالَ تعالىٰ وهو خير القائلين: ﴿فَأَمَّا الَّذينَ في قُلوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابتِغاءَ الفِتنَةِ وَابتِغاءَ تَأويلِهِ وَما يَعلَمُ تَأويلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرّاسِخونَ فِي العِلمِ يَقولونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِندِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلّا أُولُو الأَلبابِ﴾
فأنزل المحكم والمتشابه، فعُرِف بذاك من في قلبِهِ ثباتٌ، ومن في قلبه زيغٌ وميلٌ باتباع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة بالشبهات، وابتغاء تأويله.
وروىٰ أبو جعفر الطبري عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (ابتغاء الفتنة)، قال: الشبهات، هلكوا به - يعني المتشابه -
ففي إنزال المحكم مع المتشابه امتحانٌ لقلوبِ الخلقِ، وتمييزٌ وفصلٌ لمريد الهدىٰ في كتابِ اللَّهِ تعالىٰ من مريد الشبهات فيه، لرده، وفتنت من آمن به.
وهذا كما أن في أثار الخلق والحكمة والإتقان محكمات ومتشابهات، لتمييز المُبطِلِ من المؤمنِ.
فالمبطل يتبع ما قل وتشابه من الأثار المحسوسة، ليفتن بها المبطلين مدعيًا أن لا حكمة من كذا ولا نفع، وأن لا إتقان هاهنا بل نقص وعيب، يريد: لا خالق له حكمة وقدرة وإتقان قد خلق الخلق.
والمؤمن يتبع ما كثر وأُحكِمَ من أثار الخلق والحكمة والإتقان المحسوسة المدركة بالحواس، فيتفكر في خلق السماوات والأرض غيرَ قاصدٍ اتباع ما تشابه وخفي للإبطال والجدال.
قال تعالىٰ: ﴿الَّذينَ يَذكُرونَ اللَّهَ قِيامًا وَقُعودًا وَعَلىٰ جُنوبِهِم وَيَتَفَكَّرونَ في خَلقِ السَّماواتِ وَالأَرضِ رَبَّنا ما خَلَقتَ هذا باطِلًا سُبحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾
ولي مقالٌ في دلالة الحس علىٰ الخالق وصفاته، يحسُن مراجعته.
وقال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن:
وأما قولهم: ماذا أراد بإنزال المتشابه في القرآن، من أرادَ بالقرآن لعباده الهدىٰ والتبيان؟.
- فالجواب عنه: أن القرآن نزل بألفاظ العرب ومعانيها، ومذاهبها في الإيجاز والاختصار، والإطالة والتوكيد، والإشارة إلىٰ الشيء، وإغماض بعض المعاني حتىٰ لا يظهر عليه إلا اللقن، وإظهار بعضها، وضرب الأمثال لما خفي.
ولو كان القرآن كله ظاهرًا مكشوفًا حتىٰ يستوي في معرفته العالم والجاهل، لبطل التفاضل بين الناس، وسقطت المحنة، وماتت الخواطر.
ومع الحاجة تقع الفكرة والحيلة، ومع الكفاية يقع العجز والبلادة.
وقالوا: عيب الغنىٰ أنه يورث البله، وفضيلة الفقر أنه يبعث الحيلة.
وكل باب من أبواب العلم: من الفقه والحساب والفرائض والنحو، فمنه ما يجلّ، ومنه ما يدقّ، ليرتقي المتعلم فيه رتبة بعد رتبة حتىٰ يبلغ منتهاه، ويدرك أقصاه، ولتكون للعالم فضيلة النظر، وحسن الاستخراج، ولتقع المثوبة من اللَّه علىٰ حسن العناية.
ولو كان كل فن من العلوم شيئًا واحدًا: لم يكن عالمٌ ولا متعلمٌ، ولا خفيٌّ ولا جليٌّ لأن فضائل الأشياء تعرف بأضدادها، فالخير يعرف بالشر، والنفع بالضر، والحلو بالمر، والقليل بالكثير، والصغير بالكبير، والباطن بالظاهر.
وعلىٰ هذا المثال كلام رسول اللَّه صلَّىٰ اللَّهُ عليه وسلَّم، وكلام صحابته والتابعين، وأشعار الشعراء، وكلام الخطباء، ليس منه شيء إلا وقد يأتي فيه المعنىٰ اللطيف الذي يتحير فيه العالم المتقدّم، ويقرّ بالقصور عنه النّقّاب المبرّز.
يريد ابن قتيبة باللقن: سريع الفهم.
وما ذكره حسن، فهذا مع ما قد ذكرت ما في الأمر الأول.
وأما ما في الأمر الثاني، فإن نزوله متفرقًا هو التخفيف والرحمة بالناس والنبي ﷺ.
قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن:
وأما تكرار الأنباء والقصص، فإن اللَّه تبارك وتعالىٰ أنزل القرآن نجومًا في ثلاث وعشرين سنة، بفرض بعد فرض: تيسيرًا منه علىٰ العباد، وتدريجًا لهم إلىٰ كمال دينه.
ووعظ بعد وعظ: تنبيهًا لهم من سنة الغفلة، وشحذًا لقلوبهم بمتجدد الموعظة.
وناسخ بعد منسوخ: استعبادًا له واختبارًا لبصائرهم.
يقول اللَّه عز وجل: وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلًا
الخطاب للنبي ﷺ، والمراد بالتثبيت هو والمؤمنون.
وكان رسول اللَّه ﷺ يتخول أصحابه بالموعظة مخافة السآمة عليهم، أي يتعهدهم بها عند الغفلة ودثور القلوب.
ولو أتاهم القرآن نجمًا واحدًا لسبق حدوث الأسباب التي أنزله اللَّه بها، ولثقلت جملة الفرائض علىٰ المسلمين، وعلىٰ من أراد الدخول في الدين، ولبطل معنىٰ التنبيه، وفسد معنىٰ النسخ، لأن المنسوخ يعمل به مدة ثم يعمل بناسخه بعده.
وكيف يجوز أن ينزل القرآن في وقت واحد: افعلوا كذا ولا تفعلوه؟.
وقال الشيخ ابن عثيمين بكتاب أصول في التفسير:
من تقسيم القرآن إلىٰ مكي ومدني، يتبين أنه نزل علىٰ النبي ﷺ مفرقًا، ولنزوله على هذا الوجه حكم كثيرة منها:
١- تثبيت قلب النبي ﷺ، لقوله تعالىٰ: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك)، يعني كذلك نزلناه مفرقًا: (لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلًا ٣٢ ولا يأتونك بمثل)، ليصدوا الناس عن سبيل اللَّه: (إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرًا)
٢- أن يسهل علىٰ الناس حفظه وفهمه والعمل به، حيث يقرأ عليهم شيئًا فشيئًا، لقوله تعالى: (وقرآنا فرقناه لتقرأه علىٰ الناس علىٰ مكث ونزلناه تنزيلًا)
قلت: روىٰ الطبري عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أُنزِلَ القرآن جملة واحدة إلىٰ السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة، قال: (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرًا)، (وقرآنًا فرَّقناه لتقرأه علىٰ الناس علىٰ مكث ونزلناه تنزيلًا)
فرَّقناه علىٰ التشديد قراءةٌ علىٰ معنىٰ أنه صيره مفرقًا بآية بعد آية، وقصة بعد قصة، ويدل علىٰ هذه القراءة ما سبق الكلام وتقدمه من قوله: (ونزلناه تنزيلًا)
ونزَّل علىٰ وزن فعَّل الذي للتكثير، أي أنه أنزله مرةً بعد مرةً، وفي حينٍ بعد حينٍ.
وصيره سبحانه كذلك، فنزله تنزيلًا في عشرين سنة ليقرأه علىٰ الناس علىٰ مكث، وليجيئه بالحق وأحسن تفسيرًا، كما أشار لذلك ابن عباس عليهما السلام.
وروىٰ الطبري عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قرأ: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك)، حتىٰ بلغ: (وأحسن تفسيرًا)، قال: يَنْقُض عليهم ما يأتون به.
قلت: وذاك أنهم أتوا بقيلهم: (أفتأتون السحر وأنتم تبصرون)
فجاءهم بالحق المُبطِل لذلك وأحسن تفسيرًا، فقال: (قل ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم)
يعني قال: قل لهم: ربي يعلم قول كل قائل في السماء والأرض، يسمعه إذا قيل ويعلمه، فإن يكن قولي سحرًا، فهو السميع له العليم به، فلمحاه وأذهبه.
وقال في موضع أخر: (أم يقولون افترىٰ علىٰ اللَّه كذبًا فإن يشإ اللَّه يختم علىٰ قلبك ويمح اللَّه الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصور)
ولكنه سمع قيلي، وعَلِم ما في صدري، فأمضىٰ لي رسالتي عنه، فهذا أحسن تفسيرًا مما قالوا.
وقالوا: (إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم أخرون)، و: (أساطير الأولين اكتتبها فهي تملىٰ تليه بكرة وأصيلًا)، و: (إن تتبعون إلا رجلًا مسحورًا)
فجاء لهم بالحق وأحسن تفسيرًا، فقال: (انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلًا)
يعني انظر كيف وصفوا لك الأشباه أشباهك متضادةً متعاكسةً، فجهلوا بها صواب أمرك، فلا يستطيعون سبيلًا عنها، يخرجهم منها، ولو كانت حقًّا لما تعارضت، ولوجدوا منها مخرجًا وسبيلًا.
وإنما صواب أمره أن ما جاء به: (أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض)، فعلم خبر ما قد مضىٰ: (إنه كان غفورًا رحيمًا)، أن أنزل إليكم وحيه.
وقال الشيخ ابن عثيمين في تكلمة كلامه الذي ذكرت:
٣- تنشيط الهمم لقبول ما نزل من القران وتنفيذه، حيث يتشوق الناس بلهف وشوق إلىٰ نزول الآية، لا سيما عند اشتداد الحاجة إليها، كما في آيات الإفك واللعان.
٤- التدرج في التشريع حتىٰ يصل إلىٰ درجة الكمال، كما في آيات الخمر الذي نشأ الناس عليه وألفوه، وكان من الصعب عليهم أن يجابهوا بالمنع منه منعا باتًا، فنزل في شأنه أولًا قوله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)
فكان في هذه الآية تهيئة للنفوس لقبول تحريمه حيث إن العقل يقتضي أن لا يمارس شيئًا إثمه أكبر من نفعه.
ثم نزل ثانيا قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون)
فكان في هذه الآية تمرين علىٰ تركه في بعض الأوقات، وهي أوقات الصلوات.
ثم نزل ثالثًا قوله تعالىٰ: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون)، (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر اللَّه وعن الصلاة فهل أنتم منتهون)، (وأطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين)
فكان في هذه الآيات المنع من الخمر منعًا باتًا في جميع الأوقات بعد أن هيئت النفوس، ثم مرنت علىٰ المنع منه في بعض الأوقات.
انتهىٰ كلامه رحمه اللَّه.
وصل اللهم وسلم علىٰ نبينا محمد.
تعليقات
إرسال تعليق